وحملقت المرأة في وجه مولاتها، وتدلت شفتها السفلى، ولم تنطق.
فقالت الغانية ضاحكة: هو فرعون يا شيث .. فرعون؛ فرعون بذاته دون سواه، إياك والثرثرة .. اذهبي الآن، واغربي عن وجهي؛ فإني أريد أن أخلو بنفسي.
وأغلقت الباب ودلفت إلى النافذة المطلة على الحديقة، وكان الليل جثم في مجثمه وأرخى على الكون جناحيه، وبدت طلائع النجوم في كبد السماء، وأنوار المصابيح المعلقة بأغصان الأشجار في الحديقة، وتبدى الليل فاتنا، فتذوقت جماله وأحست لأول مرة بأن انفرادها فيه عذب بل أعذب من اجتماعها بالعشاق جميعا .. وأصغت في سكونه إلى ذات نفسها وهمسات قلبها .. وبعثت الذكريات الذكريات، فرجع خيالها إلى عهد منطو بعيد، خفق فيه قلبها خفقة طائشة، قبل أن تتوج ملكة للقلوب على عرش بيجة، وتغدو للأنفس قضاء لا يرد. كانت ريفية حسناء، برزت من بين أوراق الريف المخضلة، كما تبرز الوردة اليانعة، وكان نوتيا عذب الصوت نحاسي الساقين، ولا تذكر أنها سلمت لإنسان بداعي قلبها سواه، وشهدت شواطئ بيجة مشهدا لم تسعد بمثله في الأرض. ودعاها إلى سفينه فلبت دعاءه، وحملتها الأمواج من بيجة إلى أقصى الجنوب، وانقطعت من يومها صلاتها بالريف وأهلها جميعا. واختفى النوتي من حياتها فجأة، ولم تدر إن كان ضل، أو فر، أو مات، ووجدت نفسها وحيدة. كلا لم تكن وحيدة، كان معها جمالها فلم تتشرد، والتقطها كهل ذو لحية طويلة، وقلب ضعيف. وطابت لها الحياة وأثرت بموته، وتوهج نورها فخطف الأبصار، فانجذبوا إليها كالفراش المجنون، وألقوا تحت قدميها الصغيرتين قلوبا فتية، وأموالا لا تعد، وبايعوها ملكة للقلوب في قصر بيجة، فكانت رادوبيس .. يا للذكريات!
كيف مات قلبها بعد ذلك؟ هل أماته الحزن، أم الغرور، أم المجد؟ .. كانت تصغي إلى حديث الحب بأذن صماء، وقلب مغلق، فكان منتهى ما يطمع فيه عاشق مدله مثل طاهو أن تهبه جسدها البارد.
استسلمت للذكريات طويلا، وكأنما استدعتها لتربطها بأعجب أيام حياتها، وأسعد أيامها!
ومضى الوقت وهي لا تحس به إن كانت ساعات أم دقائق، حتى انتبهت على وقع أقدام، فالتفتت منزعجة ، فرأت بابها يفتح، ودخلت شيث لاهثة وقالت: مولاتي .. إنه يتبعني .. ها هو ذا.
ورأت يدخل مطمئنا كأنه يدخل مخدعه الخاص، فغمرتها دهشة ممزوجة بفرح وصاحت: مولاي.
وانسلت شيث خارجا، وأغلقت الباب، وألقى الملك نظرة على المخدع الجميل، وقال ضاحكا: هل أطلب المغفرة لتهجمي هذا؟
فابتسمت ابتسامة سعيدة، وقالت: المخدع وصاحبته لك يا مولاي.
فضحك ضحكته الفاتنة. كانت ضحكة رنانة فتية تنبض بالحياة الدافقة، وأمسك بمرفقها، وسار بها إلى الديوان وأجلسها، وجلس إلى جانبها، وقال: كنت أخشى أن يسبقني النوم إليك. - النوم .. النوم لا يهتدي إلى أمثال هذه الليلة، يحسبها من فرط نور السعادة نهارا.
صفحة غير معروفة