وهرعت إلى عرشها وأشارت إليه، ثم انحنت باحترام، ولكنه اختار ديوانا وثيرا، وجلس عليه، وقال لها: ادني مني يا رادوبيس. اجلسي ها هنا.
فدنت الغانية حتى صارت على بعد قريب، ووقفت تغالب اضطرابها وذهولها، فأجلسها بيده، وأمسك بمعصمها - وكانت أول لمسة - وأجلسها إلى جانبه .. وكان قلبها يخفق بشدة، فوضعت الصندل جانبا، وخفضت عينيها، ونسيت أنها رادوبيس المعبودة، التي تعبث بالقلوب والرجال كيف شاء لها العبث. غلبتها المفاجأة، وهز نفسها الشخص المعبود، كأنه ضوء متوهج سلط على عينيها بغتة، فانكمشت كعذراء تتصدى لرجلها أول مرة .. إلا أن جمالها الرائع خاض المعركة - بغير علم منها - ثابت الجنان، عظيم الثقة، وسلط شعاعه السحري على عيني الملك الداهشتين كما تسلط الشمس شعاعها الفضي على نائم النبت، فيصحو ويرف رفيفا فاتنا. كان جمال رادوبيس قاهرا نفاذا، يحرق من يدنو منه، ويبعث في نفسه الجنون، ويملأ صدره برغبة لا تروى ولا تشبع.
كانا في تلك الليلة الخالدة - رادوبيس المتعثرة في ارتباكها والملك التائه في الحسن - أحوج بشرين إلى رحمة الآلهة.
وأحب الملك أن يسمع صوتها فسألها: كيف لا تسألينني عن وقوع صندلك بين يدي؟
فساورها القلق، وقالت: نسيت أمورا أجل يا مولاي.
فابتسم وسألها: كيف ضاع منك؟
وهدأت رقة صوته من انفعالها، فقالت: خطفه النسر وأنا أستحم.
وتنهد الملك ورفع رأسه كأنه ينظر إلى تهاويل السقف، وأغمض عينيه يتخيل ذلك المنظر الفاتن؛ إذ رادوبيس تلعب في الماء بجسمها العاري، والنسر يهوي من عل فيخطف صندلها. وسمعت الغانية رفيف أنفاسه، وأحست بها تلفح خدها، وعاد إلى النظر إلى وجهها، وقال بوجد: خطفه النسر وطار به إلي. يا للقصة الفاتنة! ولكني أتساءل منكرا: أكنت أحرم من رؤيتك لو لم يقيض إلي الرب هذا النسر الكريم؟ .. يا له من فرض محزن! ومع هذا فإني أحس في أعماقي بأنه كبر على النسر ألا أعرفك وأنت على قيد ذراع مني، فرماني بالصندل لأنتبه من غفلتي.
فقالت كالداهشة: هل رمى النسر بالصندل بين يديك يا مولاي؟ - نعم يا رادوبيس .. هذه هي القصة الفاتنة. - يا لها من مصادفة كالسحر! - أتقولين مصادفة يا رادوبيس .. وما المصادفة؟ .. إنها قضاء مقنع!
فتنهدت وقالت: صدقت يا مولاي .. إنها كالعاقل المتغابي. - سأعلن رغبتي على الملأ ألا يعرض إنسان من شعبي للنسر بسوء!
صفحة غير معروفة