فإن قالوا: الحرارة هي التي فعلت ذلك بالأبصار؛ لأن النور من شأنه دفعها إلى ما هي فيه من محجر القرار.
قيل: فالحرارة عندكم يا هؤلاء من شأنها الإحراق، وقد يرى الناظر يديم النظر إلى شروق الشمس فلا يحرق ناظره الإشراق! وقد يزعمون أن الحرارة في الظلمة أوكد، وفي سوسها وكونها أوجد، ثم يديم الناظر إليها نظره، فلا يعشيه ولا يحرق بصره! فأي دليل أدل على تلعبهم، وأوضح برهانا على سفه مذهبهم ؟! من هذا عند من ذاق من المعارف ذوقا، وعقل بين مفترقات الأشياء فروقا!!.
وأخرى يا هؤلاء فافهموها، تدل فيها على غير الأوهام التي توهموها، أن الشديد الرمد يجد في الظلمة راحة وفترة، وأنه يجد في النور عند مقاربته له مضرة منكرة، فلا نرى الظلمة إلا تفعل خيرا، ولا النور إلا يفعل شرا كبيرا.
وهذا فقد يبين أيضا بوجه آخر، يدل على خلاف ما قالوا في الخير والشر.
وهو أن يقال لهم في الماء، إذ زعموا أنه مزاج من النور والظلماء: ما بال قليله ينفع وكثيره يضر ؟!
فإن قالوا من قبل أن المزاج يقل ويكثر.
قيل: فما بال كثير نوره، في الكثير من بحوره، لا يمنع ضر كثير ظلمته، كما منع قليل نفعه قليل مضرته ؟!
أم تزعمون أن قليل النور أقوى من كثيره، فهذا من القول هو المحال بعينه، أن يكون قليل من شيء هو أقوى من كثير، كان منيرا أو غير منير!
ومما - أيضا - يدخل عليهم، أن يقال إن شاء الله لهم: حدثونا يا هؤلاء عن الثور ما باله يفر عن الحر إذا أحرقه إلى البرد والضلال، ويفر من البرد إذا آذاه إلى الصلاء والنار، وهما في زعمكم جميعا ظلمة مضرة، ليس لأحد فيهما منفعة ولا مسرة! ولن يخلو عندكم أن يكونا من سوسه فينفعاه، أو مما زعمتم من خلافه فيضراه ؟!
فإن قلتم بما فيهما من مزاج النور انتفع ؟
قيل لكم: فإلى أيهما فر ونزع ؟!
فإن قالوا: إلى أكثرهما نورا، وأقلهما من المزاج شرورا.
صفحة ١٣٦