ولما امتنعت عليهم نفوس أهل الحياء من الأمة، فلم تأخذ منها وساوسهم، وجدوا تلك الصفة الكريمة سدا دون طلبتهم، فانصبوا عليها يقصدون محوها من الأنفس، وأعلنوا أن الحياء ضعف في النفس - على ما تقدم - وزعموا أن من الواجب على طالب الكمال أن يكسر مقاطر (¬1) العادات، ويحمل نفسه على ارتكاب ما يستنكره الناس حتى يعود من يسهل عليه أن يأتي كل قبيح بدون انفعال نفسي، ولا يجد أدنى خجل في المجاهرة بأية هجينة كانت.
ثم تقدم الأبيقوريون إلى العمل بما يرشدون إليه فهتكوا حجاب الحياء، ومزقوا ستاره، وأراقوا ماء الوجه الإنساني المكرم، فاستحلوا التناول من مال الناس بغير إذن، وكانوا متى رأوا مائدة اقتحموا عليها، سواء طلبوا أو لم يطلبوا، حتى سماهم القوم بالكلاب... فإذا رأوهم رموهم بالعظام المعروفة، ومع ذلك لم تتنازل هذه الكلاب الإنسية عن دعوى الحكمة، ولم يردعها رادع الزجر عن شيء من شرورها، وكانت تنبح في الأسواق منادية: المال مشاع بين الكل، وتهجم على الناس من كل ناحية، وهذا سبب شهرتهم بالكلبيين.
فلما ضربت أفكار الدهريين في نفوس اليونان، بسعي الأبيقوريين، ونشبت بعقولهم، سقطت مداركهم إلى حضيض البلاد، وكسد سوق العلم والحكمة، وتبدل شرف أنفسهم بالذل واللؤم، وتحولت أمانتهم إلى الخيانة، وانقلب الوقار والحياء قحة وتسفلا، واستحالت شجاعتهم إلى الجبن، ومحبة جنسهم ووطنهم إلى المحبة الشخصية.
وبالجملة: فقد تهدمت عليهم الأركان الستة التي كان يقوم عليها بيت سعادتهم، وانتقض أساس إنسانيتهم، ثم انتهى أمرهم بوقوعهم أسرى في أيدي الرومانيين، وكبلوا في قيود العبودية زمنا طويلا، بعد ما كانوا يعدون حكاما في الأرض بلا معارض.
صفحة ٩