ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم، نبذوا آراءهم وأخذوا طريقا جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية من الشعور، مصدرا لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة والأشكال المعجبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علوية وسفلية، والموجب لاختلاف الصور والمقدر لأشكالها وأطوارها، وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: «متيير» ، و«فورس» ، و«انتليجانس» ؛ أي مادة، وقوة، وإدراك.
وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلابسها من الإدراك، تجلت وتتجلى بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية - نباتية كانت أو حيوانية - تراعي بما لابسها من الشعور، ما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة، والفصول السنوية.
هذا أنفس ما وجدوا من حيلة لمذهبهم العاطل، بعد ما دخلوا ألف جحر، وخرجوا من ألف نفق، وما هو بأقرب إلى العقل من سائر أوهامهم، ولا هو بالمنطبق على سائر أحوالهم، فإنهم يرون - كسائر المتأخرين - أن الأجسام مركبه من الأجزاء الديمقراطيسية، ولا ينطبق رأيهم الجديد في علة النظام الكوني على رأيهم في تركيب الأجسام.
صفحة ١١