الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
بينما كنت أجري جراحة القلب بأمريكا، بدأ عرض فيلم المهاجر، وبدأت أيضا التداعيات حوله، ووصلني بعض ما كتب حول الفيلم، وفاتني الكثير، وتابعت القضية حتى انجلى الأمر وتمكنت من مشاهدة الفيلم بعد إعادة عرضه، وآثرت التريث قليلا حتى تهدأ العاصفة لتفسح مكانا للعقل. وإبان متابعتي لما تكبته الصحف السيارة والمجلات، طالعت عددا من وجهات النظر بعضها كان يهاجم بحجة أن الفيلم عمد إلى تشويه الشخصية المصرية والتاريخ المصري لصالح الصهاينة، والبعض الآخر كان يهاجم، لأن الفيلم في رأيه كان دعوة صريحة للتطبيع مع دولة إسرائيل، هذا ناهيك عن المهاجم الأساسي الذي وقف مؤسسيا وراء فرد رفع دعوى ضد الفيلم. باعتباره يجسد شخصية النبي يوسف، وسط أحداث وحوار لا يليق بشخصية النبي. وتأسيسا على هذا الموقف، تأسس موقف آخر على النقيض تماما، وقف إلى جوار المخرج والفيلم بدون تحفظ ، منطلقا من حق الفنان في طرح ما يراه دون أية قيود، وتم إبان ذلك خلط كثير من الأوراق المتناقضة، بحجة أن المسألة هي مستقبل الثقافة في مصر، وأن المبدعين والمثقفين قد أصبحوا في مواجهة تيار سلفي شديد الجمود والنصية.
تلفيق لا يليق
وبداية لا يمكن هنا بالطبع أن نلقي بالا إلى الاتجاه الذي أدان الفيلم لمجرد أنه يشخص الأنبياء. كما يجب في هذا الإطار أن نتجاهل أيضا وتماما ردود المخرج وحوارييه ومؤيديه، الذين أخذوا يؤكدون أن الفيلم لم يقصد تصوير قصة النبي يوسف كما وردت في القرآن الكريم، إنما دارت أحداث الفيلم على نحو مشابه لقصة ذلك النبي؛ لتتخذ من عبرة القصة نموذجا وقدوة ومثلا أعلى للشباب، للثبات أمام المغريات الدنيوية والشهوات البهيمية كما ورد في صحيفة الدفاع، وتجاهلنا هنا لتلك الردود يعمد إلى المصداقية بعيدا عن لعب كل من الطرفين لكسب القضية القانونية وقضية الرأي العام بأي أوراق ممكنة حتى لو كانت فاقدة للمصداقية.
ومن ثم سيكون من التلفيق غير اللائق بل ومن الغباء ألا نرى في الفيلم قصة الأب الإسرائيلي التوراتي «يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» التي قدمت بوضوح شديد، مع بعض التحوير الطفيف هنا وهناك لتلافي ما يمكن حدوثه من عواقب إزاء المفاهيم السائدة، ولتلافي ما قد يطرأ من مساءلة قانونية لإيجاد عدد من المخارج الممكنة عندما تبدأ ردود الفعل، ومن نماذج ذلك تقديم عدد إخوة بطل الفيلم «رام»، المفترض أنهم الأسباط إخوة يوسف في عدد مخالف لما قدمته التوراة، أو مثل تحوير موقف إلقاء يوسف في بئر «جب» إلى إلقائه في الحجرة السفلية لسفينة مصرية لكن فتحة الغرفة كانت موحية تماما بالبئر أو الجب، هذا إضافة إلى مخالفة السيناريو والقصة للخاتمة التوراتية، فتتم عودة بطل الفيلم من مصر إلى بلاده البدوية رغم موت بطل القصة التوراتية وتحنيطه ودفنه في مصر على الطريقة المصرية، حتى يمكن بذلك إيجاد المخرج بالقول: إن الأمر مجرد رؤية فنية تجسد رحلة المخرج وهجرته إلى أمريكا ثم عودته إلى بلاده ، وأن الأمر فقط كان استلهاما لبعض المواقف النبوية إزاء المغريات الدنيوية.
وربما جاز للمشتغلين بالنقد الفني أن يضعوا لنا مصادرة في شكل مقدمة ثابتة لا تقبل نقاشا، وهي أنه لا يجوز التعامل مع الفيلم إلا بالمعايير الفنية وحدها، فالفيلم فيلم وليس بحثا تاريخيا، أو عملا فقهيا، لكن الحال هنا سيختلف تماما مع فيلم المهاجر لعدد من الأسباب الواضحة والمهمة التي لا يمكن تجاوزها لصالح الموقف الفني وحده، حيث اشتبك الفيلم مع عدد من المسائل شديدة الحساسية وتداخل معها إلى الحد الذي لا يسمح بالوقوف عند أدوات النقد الفني وحده ومعاييره في التعامل مع الفيلم، وقد جاء اشتباك الفيلم مع غير الفني على ثلاثة مستويات.
صدمة الذاكرة
المستوى الأول هو مستوى الحالي، الآني الراهن، حيث بدأ التطبيع العربي مع الدولة الإسرائيلية يسير حثيثا مع متغيرات كبرى بالمنطقة، «واختيار قصة يوسف بن يعقوب» تحديدا في هذا الوقت، وبالصورة التي عولج بها، تحمل أكثر من علامة استفهام حول مقاصد الفيلم الذي تلامس مع ما يريد في نقاط التقاء كاشفة واضحة، في أكثر من لقطة وأكثر من ترميزة.
فالعجز الجنسي لقائد الجند المصري يكشف في وجهه الآخر عن القول المأثور بحاجز نفسي، إضافة إلى أنه يعبر عن عجز القوة والقدرة إزاء الشاب المهاجر القوي المليح وعلاقته بالزوجة الشابة، ثم كانت زراعة الصحراء بوضع يد المصري في يد المهاجر الغريب التي تشي ببساطة بنصيحة واضحة: لنضع أيدينا مع بعضها، نزدهر وننتج ونخضر الصحاري، وهو الأمر الذي لا يمر دون التأكيد عليه في الحوار، فهذا المزارع المصري «أوزير» يتعاون مع «رام» المهاجر في زراعة الصحراء، وعندما يتقدم «رام» ليشكره يجيبه المصري: «كلنا محتاجون لبعض.» أو في نص آخر بالحوار ينضح بالغرض المفصح في استهجان «رام/يوسف» للمصريين الذين لم يقبلوه مواطنا رغم طول إقامته بينهم ويلقي باستنكاره هذا مفصحا عن إجابة السؤال: كيف لا نقبل إسرائيل بيننا بعد جيرتها لنا زمنا؟!
على أية حال هذا مستوى من مستويات الاشتباك مع الراهن، يوعز بأنه ربما تأسس بشكل ذكي وخبيث على نص ديني، بحيث يفضح «يوسف شاهين» بقصد أو بدون قصد مدى التناقض الذي يقع فيه «القوموي العروبي» مع نفسه عندما يؤمن بعقائد تسلم بهذه القصة التي تسفه المصريين تماما وتاريخهم لصالح الإسرائيليين، وتجعل من الإسرائيليين الحكمة كلها والطهارة كلها والعفة كلها وتجعل من المصريين رموزا للحمق والشهوانية والدنيوية الفجة.
صفحة غير معروفة