العامل الموضوعي ووضع المرأة
سبق وأشرنا إلى اختلاف آراء الباحثين في وضع المرأة زمن الجاهلية، كما ألمحنا إلى أن ذلك الاختلاف ناتج من تعدد القبائل والأشكال المجتمعية على التجاور في زمن واحد، في مناطق مختلفة، كذلك تنوع الأقاليم وطرق الكسب التي تتباين، وما تبع ذلك بالضرورة من اختلاف في وضع المرأة، ولا ريب أن دخول الشكل الطبقي أدى إلى ثراء قبائل ضاربة على طرق التجارة، مقارنة بقبائل ظلت على فقرها في باطن الجزيرة، إضافة إلى التفاوت الطبقي داخل القبيلة الواحدة، وما ارتبط به ذلك التطور الاقتصادي في تفجير الأطر القبلية في المناطق التي أصابها ذلك التطور، فتغيرت بناها المجتمعية وسعت نحو نزوع وحدوي على مستوى الأرض والسماء، مما أدى إلى نشوء وعي قومي وحدوي، استشعرت فيه قبائل العرب بوحدة جنسها، وكان لكل تلك التطورات دورها في اختلاف وضع المرأة، مما أدى لاختلاف رؤية الباحثين بدورها.
ظاهرة الوأد
يقول القرآن الكريم معقبا على ما آل إليه حال المرأة في العصر الجاهلي، آمرا، ناهيا
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ، وينبه «الدكتور علي عبد الواحد وافي» هنا إلى أن الوأد الناتج عن الفقر لم يكن فيه تمييز بين الذكر والأنثى، فكانوا يئدون على الجملة، وهو رأي فيه نظر، حيث لم يثبت وأد الذكور على الإطلاق، حيث كانت البداوة ونمطها بحاجة دائمة إلى ذكور شغيلة محاربين، لكنه يطرح من جانب آخر وجهة نظر بشأن وأد الإناث، فيقول إنهم اعتقدوا أن البنت من خلق الشيطان، أو خلق إله غير إلههم، فوجب التخلص منها.
وفي التفسير الديني نجد تفسيرا أقرب للمقبول عند الدكتور «علي زيعور» حيث يقول: إنه كان لونا من طقوس التقرب لإله القمر «ود» رمز الأنوثة في رأيه، وإنه كان من بقايا القرابين البشرية، التي درجت عليها الشعوب القديمة، قبل استبدالها بذبح الحيوان فداء للإنسان.
لكن ما يعني الأمر هنا هو أن المطالع لكتبنا الإخبارية لن يجد ظاهرة الوأد أمرا متفشيا، كما هو شائع، بل كان على العكس نادر الوقوع، ذكرت حالات بعدد قليل لا يرقى بالحالة إلى ظاهرة منتشرة، وقد عابه العرب وأنكروه. وأشهر حالتين يتم ذكرهما حالة «قيس بن عاصم» وحالة «عمر بن الخطاب».
ولعل صدق الوحي والتنزيل هو الفيصل بشأن سبب الوأد في بعض مواضع وبعض قبائل الجزيرة، حيث أشار للوضع الاقتصادي وأثره في تلك العادة، فالفقير بحاجة للولد المنتج، وليس بحاجة لأنثى فم يلتهم في مجتمع ندرة على العموم، ثم كان حال القبائل المتحاربة يعرض الإناث للسبي والعار، وكان محتما أن تهزم القبيلة الفقيرة وتسبى بناتها، لقلة عتادها وحيلها.
والدليل على عدم تفشي الوأد، وأنه بالفعل كان ناتج الإملاق كما قال الوحي الصادق، أن علية القوم ومن تيسر معاشهم فتهذبت نفوسهم، استهجنوا ذلك بشدة، فكانوا يفتدون البنات من الوأد، واشتهر من بين أجواد العرب «صعصعة بن ناجية» جد «الفرزدق»، الذي أخذ على نفسه ألا يسمع بمئودة إلا فداها، فسمي محيي الموءودات، وقال الفرزدق فيه:
وجدي الذي منع الوائدات
صفحة غير معروفة