فقال نصيبي ساخرا: محاولة خائبة لن تنجح، نحن مختلفان تماما، أنا لا أحب المعرفة، أما السياسة فإنك إن اخترت الحكومة اخترت من فوري المعارضة والعكس بالعكس، لن أتبعك ولن تتبعني، ولن تهدأ المعركة.
فقال الأب بنفاد صبر: ارجعا إلى الوفاق، لا مفر منه، إنه قدر، كما أن اتحادكما قدر.
وعادا كارهين إلى المحاولة، تجنبا الخلاف ما استطاعا، وجارى كل الآخر رغم تقزز قسمتي الخفي وسخرية نصيبي بعيدا عن عيني صاحبه. بدوا صديقين بلا صداقة، متحالفين بلا إخلاص، فعاش كل منهما نصف حياة، وتعلق بنصف أمل ... غير أن آثار العمر طبعت في وجه نصيبي قبل الأوان، وتوكد أنه يسرع نحو شيخوخة مبكرة ... لعله نتيجة لإفراطه في كل شيء. وراح يشكو من فتور في الجنس وحساسية من الشراب، وسوء الهضم ... ولم تنفعه العطارة ولا الطب، وفي معاناته أعلن ما يخبئ من حنق على صاحبه، فاتهمه قائلا: حسدتني، عليك اللعنة!
فتسامح معه قسمتي متمتما: سامحك الله!
فصاح به: لن تشمت بي، إذا مت فستحمل جثتي إلى نهاية العمر وتتحول من بشر إلى قبر!
واشتد به الضعف حتى ركبه الخوف من الموت، ورق له قسمتي في تدهوره ... فشجعه قائلا: سترجع إلى خير مما كنت!
فلم يحفل بقوله ولم يصدقه، وذات صباح صحا مبكرا وهتف: إني ذاهب إلى موطن الحقيقة الباكية!
وهرولت إليه ست عنباية، فأدركت أنه يحتضر فأخذته في حضنها، وراحت تتلو الصمدية وانتفض صدره، وبكى قسمتي أيضا ... ولكن سرعان ما غشاه الفزع من الموت المزروع في جذعه، وتبادل الوالدان نظرة حائرة. ماذا يفعلان بهذه الجثة التي لا يمكن دفنها؟ واستدعي طبيب على عجل، فتفحص الحال، وقال: إنها مشكلة تتضمن مشكلات، ولكن لا حل إلا تحنيطه؛ إذ لا يمكن فصله.
هكذا عاش قسمتي حاملا جثة صاحبه المحنطة، أدرك من اللحظة الأولى أنه سيعيش نصف حي ونصف ميت ... وأن الحرية التي حظي بها، والتي طالما تمناها ليست إلا وهما، وأنها نصف موت أو موت كامل. أجل قرر أن يهب نفسه للعمل طيلة الوقت بعد أن زال العائق، ولكنه اكتشف أنه شخص جديد آخر ... ولد الشخص الجديد فجأة وبلا تدرج، شخص فتر حماسه، وجفت ينابيعه، وتلاشت همته، وخمد ذوقه ... شخص جفا الحياة والعبادة والمسرات اليومية البريئة ... شخص يعيش تحت سماء ماجت بالغبار فلا زرقة ولا سحب ولا نجوم ولا أفق، وقال بأسى عميق: الموت في الكون.
ورئي طوال الوقت صامتا واجما شبه نائم، فسألته أمه: ألا تسلي نفسك بفعل شيء؟
صفحة غير معروفة