أدهشه صدق قولها، وقال معتذرا: لعلي مريض.
فقالت بثقة: الحق أنك انتهيت!
سرت الحقيقة في ذاته كالسم، فلم يشك في أنه انتهى، وأن حياته في جوارها توشك أن تنتهي أيضا، ولكن كيف يمكن أن تتنكر له بعد ذاك العهد الطويل من المعاشرة الحميمة والعواطف المتأججة والحب العميق المتبادل؟! ماذا تقول وماذا تفعل؟ وألا يخونها القول أو الفعل! أي كلمات لم تسمع من قبل سيشيعه بها هذا الفم المليء بالرغبات والحزم؟! وتسلل إليها بنظرة خجلى مشفقة، فبوغت بالتغير كأنه زلزال منقض بلا نذير، ها هو وجه جديد يطالعه بلا تردد ولا حرج ولا مبالاة ... يتجسد فيه الرفض والإنكار والقسوة، كأنما لا ماضي له ولا ذكريات، ولا وجدان ولا ضمير، ولا ذوق ولا حياء، ذهل وفزع فتمتم: شد ما تغيرت يا نعمة الله!
فقالت ببرود: لقد تغيرت أكثر يا عبد الله.
فتساءل بأسى: أينتهي كل شيء كأن لم يكن؟
فقالت بضجر: أنت الذي نهيته! - لعلي مريض. - ولا أمل في الشفاء.
فهتف حانقا: إنك أقسى مما يظن أعدى أعدائك.
فقالت ساخرة: بل إنكم لا تفكرون إلا في أنفسكم. - أليس للحب حق؟
فقالت بنبرة ختامية: إذا مات فلا حق له.
ونهضت متبرمة فمضت إلى الخلوة وأغلقت الباب بقوة ... لبث وحيدا مع برودة آخر الليل واليأس، احتدمت الخواطر برأسه كفقاعات الماء المغلي، فازداد يأسا وتسليما بالواقع، وبدت له أحلام سعادته كذبة فاجرة قاسية. ومن شدة العناء والإرهاق هرب في النوم ساعة واحدة، وفي الصباح الباكر هجر البيت متلفعا في عباءته السوداء، حاملا بيسراه حقيبة متوسطة الحجم، كانت الشمس ترسل أول طلقة من أشعتها الدافئة، والحركة تدب في الجنبات ... فتحت نوافذ وأبواب وتتابعت أفواج الخلق، سار بخطوات وئيدة ثقيلة تغشاه مخايل الرحيل ... رآه أول من رآه عبدون فرج الله، فرماه بنظرة دهشة خلت من الحقد لأول مرة، وسأله: أأنت راحل؟
صفحة غير معروفة