فقال ضاحكا: إني أثرثر، ولكن بغير لسان! - ألا توجد في قلبك رغبة؟
فقال بحماس: أن يدوم الحال.
فقالت بنبرة صدق: هو ما أوده أيضا. - إذن فلن يهدد دوامه شيء.
وصمتت قليلا، وهي تتفحصه ثم سألته: ألم يعد يهمك أن تعرف المجهول من حياتك؟
فهتف ضاحكا: أبدا، الحق أني أخشاه على حاضري. - وأنا أيضا مثلك.
وبعفوية تبادلا قبلة، ثم قال: ألا توجد وسيلة لحماية حبنا إذا انكشف المجهول؟ - هذا ما لا أدريه.
فتساءل بحرارة: ألا ترينه أقوى من أن يؤثر فيه شيء؟
فقالت بحماس: هو كذلك.
فاستوى حصنا منيعا من اليقين والطمأنينة خليقا بأن يصمد لأجن العواطف والترهات. وثمل بسعادته فلم ينتبه لجريان الزمن. في تلك الغفلة العذبة تلاحقت أيام الصيف لاهثة وتسلل الخريف بخطاه الخفيفة، ينفث في الجو أنفاسه الرقيقة ويخضب السماء بفرشاته البيضاء ويغزو القلوب بأنغامه الشجية. ومضت نيران العواطف المتأججة تخبو قليلا قليلا، ويحل محلها حب هادئ، موسوم بالاعتدال، متحرر من جنون الإفراط، مالك لوقت ينفقه في التعامل مع سائر أركان الحياة. وزحف ذلك التطور على الطرفين معا، الفتى والمرأة، فخلطا أحاديث الهيام بهموم الوكالة والحارة، واستأثر الجد بالحوار حينا فخلا من أية مداعبة، فانبثق التلاقي الحميم ثمرة للرغبة مرة، وثمرة للعادة أو دفعا للشكوك مرات، حتى تساءل عبد الله ما هذا الذي يحدث؟! بدا كل شيء بالقياس إليه - بخلاف المرأة - كأنما يحدث هكذا لأول مرة في تاريخ البشر. واسترق النظرات إلى المرأة الهادئة فساورته الشكوك، وازدحم أفقه بالفكر، ولمح يوما عم مخلوف زينهم وهو ماض نحو العيادة، فاستعاد تاريخه معه في لحظة. أدرك بكل سرور أن الرجل برئ من مرضه، فاندفع نحوه بتلقائية، ولكن الكهل صدمه بنظرة باردة رافضة وابتعد عنه في تجاهل تام، توقف متعثرا في ارتباكه، متذكرا ذنبه في إهماله حين مرضه، وتراجع إلى موقفه وهو يتلقى من أعين كثيرة نظرات لاذعة، شعر بأنه خسر صديقه الوحيد في الحارة. وانتبهت حواسه لما حوله من جديد، فقرأ الحسد والشماتة في أعين عبدون ورياض وحلومة. الجو مشحون بالكراهية والحسد. وتذكر تحذيرات زينهم فأوشك أن يفقد الثقة، وبدافع من تحد راح يقطع الحارة ذهابا وإيابا، ويختلف إلى المقهى بعض الوقت. وتتلقى أذناه كلمة من هنا وكلمة من هنا، لم يتصور أن تكون امرأته الشغل الشاغل للناس بهذه القوة. هل عشقتهم ونبذتهم جميعا؟! إنهم يخافونها بقدر ما يمقتونها وكأنما لا حيلة لهم قبالتها، وهي في نظرهم قوية، بل أقوى من جملة رجال أشداء، ولكن لا أهمية لقوتها إذا قيست بتمرسها بالسحر وتعاملها مع العفاريت، أو بتسلطها على ذئاب القبو الذين لا يتورعون عن القتل خدمة لها. ولا يكاد ينخدع أحد برعايتها للزاوية وشيخها أو برها ببعض الفقراء، ويرون في ذلك ستارا كاذبا تسدله على آثامها ورغبتها الشرهة في التحكم في الناس والأرزاق. وإذن فجميع مظاهر السرور في الحارة ما هي إلا قشور، أما الحقيقة فهي أنها تعيش في جو يموج بالخوف والحقد، تهدده في كل حين الذئاب والعفاريت، وتنحسر في الوقت ذاته عن ساعات لذة عابرة جادت بها المرأة المحترفة في غفلة من الزمن. أهذه هي نعمة الله حقا أم أنه خيال يشعله الحسد والحقد؟! ألم يجد حبها صادقا وعطفها شاملا وإخلاصها راسخا؟! وحتى الهدوء الذي آل إليه ألم يقع له نفس الشيء؟! هل يمكن أن يتهم هو بسبب من الاعتدال بعد الجنون بفتور الحب أو انقلاب العاطفة؟! ولكن من ناحية أخرى لم يتقرر له مصير غير مصير الآخرين؟! لم ينجو من الكأس التي تجرعها الجميع حتى الثمالة؟! وتلتقي عيناه بعينيها وهي منهمكة في العمل، فتبتسم إليه ابتسامة حلوة تمحق وساوسه فيشرق الأمل بنفسه من جديد. وتشجع في ليل ذلك اليوم الخريفي، وقال لها وهما يرشفان من قدحي القرفة والزنجبيل ويهيمان في ملكوت الأوهام الحانية: أتدرين ما يقال عنك في الحارة يا نعمة الله؟
فداعبت وجنتيه بأناملها، وقالت: لست غافلة عن شيء يهمني أبدا.
صفحة غير معروفة