وبعد، فلا ريب في أنه أصبح سمجا كل السمج بكاتب أن يقول اليوم في منافع التليفون، وما يوفر من الوقت في الكثير من قضاء الحوائج، وما يسرع بالإسعاف في الكوارث، ويعين على ضبط الأمن وكف العوادي، ويؤذن بالأسعار لوقتها في التجارات الهامة فلا يغبن بائع ولا شار، وييسر المشافهة بين الأقرباء، والأصدقاء، والأحباء على بعد المسافة وطول المدى ... إلخ. إلخ. إلخ.
إذا كان سمجا بكاتب أن يعرض لمثل هذا في الزمن الذي نعيش فيه، فما أحسب أنه سمج بأحد أن يشكو التليفون، وما يبلغ من أعصاب الناس هذا التليفون!
ولعل قائلا يقول: ما بال فلان يعبر عن هذه الأداة بكلمة «تليفون»، ولا يعبر عنها «بالإرزيز» التي اختارها المجمع اللغوي، وهو أول الناس باتباع ما يقر المجمع من تسميات؟
وفي الحق، لقد كانت هذه الكلمة شؤما على المجمع، وكانت مفتاحا لكل ما أمطر من تندر وتقليس لا أشك في أنهما كادا يعوقان سعيه، إذا لم يكونا قد عاقا منه بقدر عظيم أو يسير، إذ المجمع بريء بريء بريء، فلا هو أطلق على التليفون إرزيز، ولا هو نظر قط في لفظة «إرزيز»، ولا عرض ولا عرض إلى هذه الساعة لتسمية التليفون وكيف يدعوه، وكل ما في الأمر أن للمجمع مجلة يصدرها طوعا لحكم المرسوم الصادر بإنشائه، وهذه المجلة مقسومة إلى قسمين: قسم رسمي، وينشر فيه ما يصدره المجمع من قرارات، وما ينتهي إليه رأيه في التسميات والتعبير عن المصطلحات، وقسم غير رسمي يكتب الكاتبون فيه من أعضاء المجمع وغيرهم ما بدا لهم من بحوث لغوية، ويقترحون فيه ما يشاءون من تسميات ومصطلحات ولا يعد المجمع مسئولا، ولا يمكن أن يعد مسئولا عن شيء من هذا، ولا يقال: إنه صادر عنه بحال، وكلمة «الإرزيز» خيبة الله عليها هي من هذه المقترحات في القسم غير الرسمي لا أكثر ولا أقل، أما «شاطر ومشطور وبينهما طازج» وأخواتها، فهي من بدع النكتة ومن خلق المقلسين!
نعود بعد هذا إلى التليفون ورزاياه، بعد أن آمن كل الناس بمنافعه ومزاياه: التليفون: عصمك الله من كل مكروه - كما تعرف - أداة سريعة للتخاطب، سواء في قضاء الحوائج أو في دفع الكوارث، أو في الاستنجاد في الأحداث أو نحو ذلك، على أن الكثيرين منا نحن المصريين والسيدات على وجه خاص لا يفرضون له ذلك البتة، بل إن بعضهم وبعضهن لينظمونه في جملة الآلات الموسيقية، كالعود والقانون والبيان، كما دعاه المجمع اللغوي، والكمان مثلا، فإذا أنعم الله على سيد أو سيدة من هؤلاء بالتليفون في دار صديق أو غير صديق، جعل يتحدث ويتحدث ما يكل ولا يمل، ولا يتعب ولا ينصب ولا تقفه شهقة، ولا يختلج له فك، ولا ينقطع له نفس، بل لعله في لذته واستمتاعه أمرح من مستمع إلى عود صناع، أو قانون ضارب حسان!
ومما حدثني به الثقة الصادق أن سيدة من صديقات أسرته، تختلف إليها للزيارة في أكثر الأيام، وما بلغت الدار قط إلا عدلت من فورها إلى التليفون، فتكلمت ثم تكلمت حتى إذا أذن الله للكلام بختام، رفعت السماعة ثانيا، وافتتحت مع آخرين حديثا آخر، وهكذا حتى إذا تمت لها ثمانية أحاديث أو عشرة قامت فجلست إلى صواحبات الدار، وما إن نفرغ من شرب القهوة بعد السلام وبث الأشواق وما إلى ذلك، حتى تهرع إلى التليفون أيضا، فنعيد ما بدأت وتستأنف من الأحاديث ما قطعت وهكذا!
قال صاحبي: ولقد أقبلت هذه السيدة ذات يوم وأنا جالس في غرفة قريبة من آلة التليفون، بحيث أسمع برغمي الحديث في يسر، فأنا أشد الناس كراهة للتسمع على الناس، ورحت أعد «النمر» التي تطلبها، فإذا هي ست عشرة قد استهلكت جملة الأحاديث فيها ما يقرب من الساعتين، وإني أستطيع مطمئنا على ديني وضميري أن أحلف لك بكل ما يحلف به البار والفاجر، على أنه ما سقطت إلى أذني من كل ذلك كلمة واحدة تدعو إليها ضرورة، أو تبعثها حاجة أو تنفع في أي شيء أو تضر في أي شيء، أو يترتب عليها في يوم من الأيام أي شيء!
وحدثني صديق من الظرفاء قال: كنت جالسا في مقهى - كذا - وكان ذلك في شهر يوليو، وكان اليوم شديد الحر وبدا لي أن أتحدث في التليفون إلى صديق في شأن عاجل، فإذا مقصورة التليفون مشغولة برجل يتحدث جاهدا، ويهز رأسه هزا عنيفا، كأنما يوقع به على نبر الكلام، أو يمسك «الواحدة» على تعبير أصحاب الموسيقى، وانتظرت طويلا عله ينتهي فلم ينته، فعدت إلى مجلسي حتى مضى نصف ساعة أيضا، ثم نهضت فنقرت له على الزجاج أتعجله فالتفت إلي وإن كان فمه لم يلتفت، وجمع أطراف أنامله وأشار إلي بالتمهل فأمهلته، حتى سمعته يحيي صاحبه تحية الختام، ثم لم يرعني إلا أن يستأنف الحديث فيقول لصاحبه: «إلا قل لي» ويمتد الحديث شوطا آخر، فإذا أذن الله وسمعت منه «نهارك سعيد بقى» مثلا فتنفست الصعداء - كما يقولون - عاد فقال: «لكن ما قلتليش على كذا»، وهكذا حتى كدت أخرج من جلدي، ولم يغظني أكثر من أن أسمعه يقول في وداعه لمحادثه: «بكره إن شاء الله نتقابل في محل كذا.» فاقتحمت عليه المقصورة، وقلت له: «يا أخي! لقد سرقك الكلام فلقد صرنا بعد بكرة.»
ولا تظنن أن هذا الرجل وتلك السيدة من الشواذ فينا نحن المصريين، وأرجو ألا يغيب عنك أن هذه الإطالة التليفونية قد تجر أحيانا إلى أخطار، بل لقد تجر إلى أشد الأخطار، فلقد يطلبك قريب أو صديق، أو أي إنسان بينك وبينه عمل؛ ليحدثك في أمر عاجل فلا يصل إليك، حتى يفوت الوقت وتفلت الفرصة، وتضيع المنفعة أو تقع المضرة!
ولقد يحدث لبعض أهل الدار حادث من جرح ينزف الدم أو يكسر العظم، أو تسمم أو نحو ذلك، فيلتمس طبيب الأسرة في المقهى الذي اعتاد أن يقضي فيه بعض الليل، فإذا التليفون يئن الساعات الطوال، ما يسكن في أثنائها لحظة ولا ينقطع، ذلك بأن «دغفا» من زبائن القهوة يحدث صديقا ... فإذا شاء الله وبدا له أن ينتهي تلقفه منه آخر من طرازه وضربه، وهكذا ...
صفحة غير معروفة