على أن الشيطان زين لنا الفتح والاستعمار، ويسر لأنفسنا الحرب في سبيلهما، وقد وفى بادئ الرأي بعهده وبر بوعده، فقادنا أولا إلى بلاد لا يزال أهلها يعيشون عيش الحيوان، ولا يزال كثير منهم يسكن الغابات كما يسكنها الحيوان، ولا يأكلون إلا بما يأكل هذا الحيوان، أما اللباس إن كان لا بد من لباس، فشقة تواري السوءة، وأما السلاح فسيوف أو حراب، إن لم يستغن عنها بالمخالب والأنياب!
وقد صبحنا هؤلاء بما عندنا من كل فاتك قاصف، ومدمدم عاصف وبكل ما يتطاير بالحمم، ويرمي عزيفه بالصمم. فسرعان ما سلموا واستكانوا وسرعان ما خضعوا ودانوا، وبعد لأي أطبقنا على طرابلس، ثم ما يليها من صحراء لوبيا، حيث القوم أهل بادية؛ الشعير طعامهم، والخيام مثواهم ومنامهم، وأما مسعدهم من السلاح فظبي السيوف وأسنة الرماح، فإذا كان في أيدي بعضهم شيء من البنادق القديمة، فمما لا غناء فيه ولا أضحت له قيمة، وأما مركبهم إذا اضطربوا في صحاريهم، فالإبل المهزولة تحمل معهم متاعهم وزادهم، وعدتهم وعتادهم، لقد أطبقنا على هؤلاء ثم على هؤلاء، وصببنا عليهم من النار ما لا يثبت له الحديد المصفى - الفولاذ - فكيف بالإنسان!
ثم رمتنا أهل هذه البلاد بكل متعطل في بلادنا ومن لا يجد فيها إلى القوت سبيلا، وكلما شام هؤلاء المرتزقون رقعة من الأرض تنطق ولو بالنزر من الماء، وتخرج حتى الرقيق من النبات، أجلوا أولئك المساكين عنها ودعوهم إلى بطن الصحراء!
ثم بعد سنين غير طوال أغرنا على معاهدتنا الحبشة وزميلتنا في عصبة الأمم، وسلطنا على أهلها كل ما أخرج العلم من الفاتكات المدمرات، ولم نتأثم من أن ننضح على العدو الغاز السام وغاز الخردل، إذ هم لا يعلمون من أمر ذلك شيئا، ولا يدرون من أسباب الوقاية منه والعلاج من أذاه كثيرا ولا قليلا.
وكذلك أصبحت لنا إمبراطورية، ولكنها ليست كل إمبراطورية الرومان! وأخيرا فهذه جارة صغيرة، تشرف علينا ونشرف عليها عبر البلطيق، ولقد آمناها من كل غارة وكفلنا لها السلامة من بغي أية جارة، حتى إذا سكنت واطمأنت بهذا العهد؛ جعلنا نتربص بها الغفلة ونرتصد للغرة، حتى إذا أخذ عينها الكرى، أخذناها بجيوشنا وأساطيلنا وطياراتنا بياتا، فهبت مذعورة لا تدري أين المفر، ولا كيف السبيل إلى النجاة! ولعمري لم نرحم حتى النفساء،
1
ولم نشفق على وليدها الذي لم يفتح عينه على الدنيا إلا منذ ليلة واحدة ونهار!
إذن فنحن دولة عظيمة؛ لا نقل عن أعظم دول الأرض في البأس والسلطان، فليت شعري لماذا لا يمضي السيف ونمضي على اسم الإمبراطورية الرومانية، غازين فاتحين ذات الشمال وذات اليمين؟
وترى ما الذي يعوزنا لنكون كذلك؟ وهذه جيوشنا المدربة على خير الأساليب العسكرية تعد بالملايين، وقد زودت بأكفأ الأسلحة وأمضاها في الحروب الحديثة، وهذه طياراتنا إن شئنا حجبنا بها وجه الشمس عن العالم، وهذه أساطيلنا تغطي ثبج البحار غادية رائحة؛ لا تخشى صولة ولا تهاب عادية حتى لقد أضحى البحر المتوسط - بفضلها - بحيرة إيطالية، لا يدافعنا عن سلطاننا فيها إنس ولا جان!
ثم هذه حلل ماريشالات وجنرالات وأمبرالات وكولونيلات ... إلخ، قد «فصلها» خياطونا المهرة «تفصيلا» بديعا، ومن العجيب أنها حين أفرغت على قادتنا في البر والبحر والهواء، بدوا فيها وكأنهم ليوث الغاب، قد سلخوا الأعمار في الصيال والضراب، وشقوا الصفوف وتجسدوا في الجلى مواقع الحتوف، فأوقعوا بالعدو وعزموا أو رضوا بالموت وما سلموا!
صفحة غير معروفة