205

وعلى الجملة فإننا نستطيع أن نشبه الكذب بالسم، فإنه إذا كان في طبيعته القتل والفتك، فلقد ينتفع بقليله في شفاء العلل وإبراء الأسقام في بعض الأحوال!

وبعد، فإنما يجر الناس إلى الكذب أسباب شتى ، كما تختلف صور الكذب نفسه باختلاف طبائع الكذابين، ومن أهم ما يدعو إلى الكذب، وفي الصغار على وجه خاص، الخوف والتخلص من المسئوليات، ومن أهم ما يدعو إليه فيمن ارتفعت بهم السن، على وجه خاص أيضا، حب الظهور بألوان البطولات الزائفة لا ينفق في سبيلها شيء من جهد أو مال، أو استهداف لخطر أو تعرض لأذى من أي نوع كان، وقد يدعو إلى ذلك حب التجمل للناس واستئلافهم والظهور بالإسراع إلى قضاء حوائجهم.

وكيفما كان الأمر، فإن الكذب كثيرا ما يضحى غريزة وجبلة يعمد إليه من ابتلي به في غير ما رغبة ولا رهبة، ويصطنعه في غير ابتغاء منفعة أو دفع مضرة، بل لقد يعقل هذا وهو يعلم أنه يضره ولا ينفعه، وإذا عرفت غلبة العادة التي تضعف بالطبع واتصلت بالغريزة عرفت أن مثل هذا مجبور ما له في الأمر خيار! وبعد، فالحديث في الكذب وقبحه والكذبة وإثمهم شيء يطول في غير طائل، وما للكذب المعتاد أعني مجرد رواية غير الواقع سقنا هذا الحديث، وإنما سقناه لغرض آخر جليل يستحق أن يقابل به مطلع أبريل!

وأرجو أن تعلم أن من الكذب كذبا فنيا، وإنني أعني هذه الكلمة بكل ما تحمل من معنى، بل إنني لأمضى إلى أبعد من هذا فأقرر أن هذا «الكذب الفني» مما يمكن أن يضاف بحق إلى طائفة الفنون الجميلة، ويوضع في صفها وينظم في سلكها، إذ لا نجده يقصر عما يعطيك النحت أو التصوير أو الموسيقى من الأنس واستراحة النفس، وما تثير فيك في بعض الأحيان من الطرب، وما تبعث من الأريحية، بل ما تذكي من حسك وتنفذ من فطنتك.

نعم، هذا اللون من الكذب له فن جميل، له كل ما للفنون الجميلة من رائع الأثر، وبالغ الخطر! هو فن جميل لا يجيده ولا يبرع فيه إلا من رزق الطبع وأوتي الموهبة، فإذا تكلفه من لم يؤت ذلك خرج سمجا باردا ثقيلا كشأن سائر الفنون الجميلة في هذا، سواء بسواء.

وأول ما يبنى عليه هذا الفن أن الاختلاق والتزيد فيه لا يضر بشيء ولا يؤذي أحدا، على أنه بالغ الغاية من الإعجاب والإطراف والإضحاك، ولعل من مميزاته الواضحة أنه لا يحاول قهرك على التسليم بأنه أمر واقع لا ريب فيه، بل إنه ليعرض نفسه عليك عرضا بسيطا، وقد يتكئ في معرضه على يمين متجلجلة متخلخلة، ولك في النهاية حكمك في الرد أو في القبول.

وهذا الكذب الفني ليس ابن اليوم، ولا ابن الأمس القريب، بل إنه قائم معروف، وأصحابه المبرزون فيه معروفون كذلك من الزمان البعيد، ومن ذا الذي ينكر أبا حية النميري مثلا أو ينكر فنه العظيم، ومن ذا الذي يزعم أن صنعة هذا الرجل مما يستطيع أن يتكلفه من شاء من العالمين؟

أليس من التحف الفنية الجميلة قوله يحدث عن نفسه: سنح لي ذات يوم غزال فرميته بسهم، فتيامن الغزال فتيامن السهم وراءه، فتياسر الغزال فتياسر السهم وراءه وما زال في عدوه، يراوغ السهم بالتيامن مرة وبالتياسر مرة أخرى، والسهم يلاحقه كذلك حتى أدركه ببعض الجبانات فصرعه!

ولا شك أن من القطع الفنية الرائعة ما حدث به هذا أبو حية قال: عن لي ظبي فرميته بسهم، فانطلق الظبي وانطلق السهم وراءه، ثم ذكرت بهذا الظبي حبيته لي فعدوت وراء السهم حتى قبضت عليه قبل أن يبلغه!

وإذا كانت حكاية القزان والكرنبة أو السمكة لا يزال لها رونق في بعض الأسمار، فاعلم أن هذا المعني مسبوق من العصر القديم، قال الأصمعي: قال الخليل بن سهل: أعلمت أن طول رمح رستم كان سبعين ذراعا من حديد مصمت

صفحة غير معروفة