202

على أننا قبل أن ندخل في هذا، نرى من الخير أيضا أن نطوف ببعض القول في الشحاذين التقليديين، وقد كادوا ينقرضون ويخلو وجه المدن الكبيرة منهم، حتى يخلو على الناشئ على وجه خاص صورتين واضحتين للعهدين، يستطيع بهما المقارنة بين الفنين: القديم والحديث، وليقدروا مبلغ التطور العظيم في أسلوب الشحاذة، هذا التطور الذي أصبح يكافئ بحق سائر نهضاتنا العظام!

كان الشحاذون، ولا زالت منهم بقية قليلة يعتمدون في المسألة على إلحاح الجوع، والعجز عن السعي والعود على الشمل، بألوان من الأمراض والأسقام، والنقص في الخلقة والآفات المقعدة للمرء عن السعي والحركة في أسباب الرزق، فكان دعاؤهم في الطرق، وعلى أبواب الأضرحة وفي الجبانات في الجمع والمواسم من نحو: اللقم تمنع النقم! هنيئا لك يا فاعل الخير! عشا الغلابة عليك يا رب! سيد كريم أو ست كريمة تحن على العاجز يا محسنين! ...

ولا جدال في أن دعوى الجوع والعجز عن الرفق بالبدن في سبيل الرزق، تحتاج إلى اصطناع ما يثبتها من بلي الثوب وبلي الجسم، وقد تعصب العينان لو شك ذهاب البصر بالرمد، وقد يظهر النقص في الخلقة بفقد الذراع الأيمن، أو فقد أحد الساقين أو فقدهما جميعا، فلا يسع الشحاذ المسكين إلا أن يزحف على الأرض زحفا، فإذا لم يكن المولى جلت قدرته قد من عليه بهذه النعمة أو تلك، مضى إلى رجل أخصائي كان مثواه في بولاق، وكانوا يدعونه الربيط، فإذا كتب لك، أو كتب عليك أن تجوز بدكانه في الصباح الباكر رأيت خلفا مزدحمين ببابه، هذا يطلبه ليربط ساقه ربط العرج، أو ساقيه ربط الكساح، وهذا ليثني ذراعه حتى لا يشك رائيه في أنه قد فقد الذراع، وهذا ليشد له بعض جسده ويرخي منه بعضا، فهو ومن ضربه الفالج وأبطل نصفه بمنظر سواء وهكذا!

وأنت خبير بأنه إذا كانت الأسقام والعلل والنقص الطارئ على الخلقة هي رأس مال هؤلاء القوم، ووسيلتهم إلى الرزق، بل إلى الجمع والادخار وإحراز الغنى، وإدراك اليسار قدرت مبلغ تحاسدهم على العلل والآفات، حتى لتسمع من بعضهم إذا غبط آخر: «اللي بلاه يبلينا يا سيدي!» وتسمع من غيره وقد أخذته الموجدة على غيره: «بيتكبر على إيه، هو ما حدش انشل إلا هوه؟ آدر ربنا يحرمه من الشلل من طرفة عين، ويشمت فيه العدو!»

هذا، بالاختصار كان سبيل الشحاذين القدامى أو الشحاذين التقليديين، وتلك كانت وسيلتهم في فنهم وسعيهم في الرزق ولجمع المال، أما الآن وفي عصر النهضة، فمن النادر جدا أن تسمع مثل: اللقم تمنع النقم ... إلخ. أو تسمع رغيف عيش وصحن طبيخ! أو تسمع: عشا العاجز عليك يا رب ... ومن النادر جدا أن تسمع مثل هذا أو ذلك، فإذا قدر لك أن تسمعه ففي الأزقة والدروب التي لا تسلكها عين البوليس، ولا تقع الأصوات منها لسمعه وإلا لكان - لا سمح الله - في الملجأ الكافل المثوى والمأكل والملبس متسع للجميع!

وإذا كان شحاذو الأمس لا يظهرون إلا في بلي الثوب وبلي الجسم، فشحاذو اليوم لا يظهرون إلا في نضارة الشباب، وبضاضة الأهاب، وأناقة الثياب هم «ذوات» قد انحدرت النعمة عنهم، أو أنهم ما برحوا يتقلبون في النعمة، ولكن كرثهم من الطوارئ العاجلة ما أحوجهم إلى المعونة العاجلة، وأمثال هؤلاء لا يسألون رغيفا ولا «صحن طبيخ» حاشا لله! إنما يسألون نقودا، ونقودا قد تكون في بعض الأحيان كثيرة، وماذا لعمري يجدي الرغيف على من هبط القاهرة من الإسكندرية مثلا، واستل الطرارون - النشالون - كيس نقوده، وماذا يغني صحن الطبيخ من مات عنده ميت لا يجد ما يجهزه به ويحمله إلى مرقده في مقبرة؟ وماذا ينفع هذا أو هذا في إكمال قسط المدرسة وقد حل، وأوشكت إدارتها أن تطرد الولد طردا، وتدعه عن طلب العلم دعا؟ ثم ماذا يفيد هذا أو هذا في معونة مدرسة تعلم اليتامى وأبناء الفقراء بالمجان، ما تقتضيهم على التعليم والطعام قرشا؟ وهكذا! ...

وهؤلاء لا يلقون الناس بالضرورة في الثوب الخلق، ولا بالوجه الشائه ولا بالجلد المتقيح، بل إنه كلما عظمت أناقتهم، وجمل سمتهم ونضر خلقهم، كانوا أدنى إلى الصدق في المسألة وأدر لعطف المسئول، ولا يذهب عنك أنه قد ورد في الأثر: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس.»

وهؤلاء كذلك لا يتسكعون في الأزقة، ولا يزحفون في الدروب؛ لأن سكانها لا يجودون إلا باللقمة، ولا يخرجون للكشكول السائل إلا فضالة الطعام، وذلك عهد قد مضى - بحمد الله - وانقضى بل لا تراهم إلا منخرطين في أعلى الشوارع وأحفلها بعلية الناس

وكثرة هؤلاء لا يتعبون أنفسهم في طلب الزبائن والاختلاف إليهم في دورهم، بل إنهم ليرتصدون لهم في المقاهي أو على لقم الطريق، حتى إذا جاز الزبون بهم دعوه كما تدعو بائع التفاح، أو الخيار، أو بائع الفجل أو غيرهم من هؤلاء الباعة المترفقين بأبدانهم السريحة سواء بسواء!

ومن هؤلاء من يعترضك في الطريق، ولا يستحي من أن يقول لك: «والله أنت ابن حلال لقد قضيت أكثر من ثلاثة أشهر في البحث عنك، وها أنا ذا قد أصبتك والحمد لله!» ثم يفضي إليك بالمسألة، وثلاثة أشهر وهو يبحث عنك ولا يصيبك، حتى أذنت المصادفة وحدها باللقاء! ولا والله ما زاد على أن جعلك متشردا ليس لك عمل ولا لك محل إقامة، أو أنك فار من وجه العدالة، أو أنك هارب من اللومان والعياذ بالله!

صفحة غير معروفة