177

وقبل كل شء ينبغي أن نفرق بين حكائي الشام وحكائي اصطنبول، فالحديث عن كل منهما مختلف عن الآخر أشد الاختلاف، وسترى هذا من عرض الكلام.

وبعد، فقد لا يكون من أخلاق الحكاء الكذب، وقد لا يكون من خلاله التزيد، فإذا آنست من حديثه شيئا من التزيد أو العلو الذي ينبو على كل تقدير، فاعذره فما كان الرجل ليضرب في الأرض، ولا ليعاني من ألوان المشقات ما يعاني، ولا ليبذل في وجوه النفقات ما يبذل ولا ليحتمل من آلام الغربة والغيبة عن الأهل والولد ما يحتمل، كل هذا ليقول لك: إنه مشى على أرض كالأرض التي تمشي عليها، أو رأى السماء كالسماء التي تنظر كل يوم إليها، أو أكل عنبا كالذي يأكله، أو يشرب ماء كالماء الذي تشربه ... إلخ.

اللهم إن هذا الرحالة الجواد بالمال والنفس إذا دعت الحال في سبيل الترف وتلذيذ النفس بأسباب الرفاهية؛ ليرى نفسه ملزما بأن يأتيك بالجديد، ويطالعك بالطريف، بل مما يذهلك ويدخل عليك الدهش والعجب.

ولنبدأ بحديث رواد الشام، وما أصابوا في بلاد الشام: أما العنب فالعنبة لا تقل في حجمها عن بلحة الزغلول، ولهذا ترى القطف منه أكبر وأضخم من عذق النخل، فإذا أنت قشرتها وعرضتها للهواء استحالت قمعا من السكر لا يميز بينهما إلا البذر، فإذا لم يكن ثم بذر فالتمييز ضرب من المحال!

وهناك أنهار وجداول، ماؤها أحلى من العسل وأبرد من الثلج إلى آخر ما انتهى إلينا من صفة الكوثر في الجنة، وهناك التفاح وما أدراك بالتفاح؟ لقد تلقي بالتفاحة في النهر أو الجدول، وسرعان ما تتناولها مقشرة وقد شطرها لك الماء أربعة شطور، فإذا قذفتها في فمك استحالت شرابا ولكنه زلال، وخمرا ولكنه حلال!

وأما الخوخ، فلا يقل في الحكم عن ثمر الجوز الهندي، وهل تراك تحرك فكا لتمضغه مضغا؟ بل إنك لتترشفه ترشفا وتعب من عسله عبا! وأما البطيخ فمما تنوء واحدته بالعبقريين الشداد!

وأما المشمش، وأما التين، وأما الكمثرى، وأما وأما مما تخرج الأرض وما تعالج الأيدي من ألوان الفطائر والحلوى، فعد ذلك مما يتجاوز الجهد ولا يتسع له نطاق الكلام.

ولقد زعمت لك في بعض هذا المقال أن الحكاء من هؤلاء قل أن يلم في حديثه الطويل العريض بالطبيعة، والآن ذكرت، وأستغفر الله مما عراني من النسيان، فإنهم يعرضون للطبيعة وفضل الطبيعة، فإن أحدهم ليصف لك ما كان يصيب في وجبته من لحم الضأن والطير والسمك والخضر والحلوى والنقل والفاكهة ... إلخ. حتى ليخيل إليك أنه قام وحده بالتهام مطعم كامل، أو أنه طهي له سوق خضار تزاد عليه صواني الكنافة والبسبوسة والهريسة، وما شئت أو لم تشأ من الفطائر والحلوى، وإياك أن تنسى صينية «الكبة الشامي» التي تقرب إليك في صدر الطعام!

وبعد أن يعرض على سمعك لا على عينك ولا على شفتك هذه القوائم أو هذه «المونيهات»

menus

صفحة غير معروفة