وإذا كان الأستاذ المحاضر لم يطل الكلام في الموسيقى، ولم يجره على جهة التفصيل فلغير الموسيقى كان مساق الحديث.
وأرجو أن يأذن لي أن أتبسط بعض التبسط في حديث الموسيقى، وأن أتولى ما أجمل بشيء من التفصيل.
الموسيقى في حاجة إلى نبي جديد، لو أن الأنبياء يبعثون لتقويم الأذواق وهدايتها الصراط المستقيم!
الموسيقى في أشد الحاجة إلى زعيم مصلح يهدي إلى الرشد، أو إلى قائد يفتح بالسيف ما استغلق على جهد الكلام!
في الحق لقد أضحت حالنا من هذه الناحية في أشد الحاجة إلى الفتح المبين.
ولست أذهب بك يا سيدي القارئ في التدليل إلى بعيد فلقد فتحت أخيرا إحدى كبريات الصحف في مصر بابا تنشر فيه آراء الناس في محطة الإذاعة المصرية، ولو قد اطلعت على هذه الآراء فيما تذيعه المحطة من ألوان الموسيقى وفنون الغناء، لتعاظمك الأمر وراعك وحير لبك وذهب بك منه العجب كل مذهب، وذلك بأن الكاتبين جميعا ساخطون متبرمون متأففون، وليس عجبا أن يتوافق جمهور الناس على السخط والتبرم، فإن من الأشياء ما لا يعجب جميع الناس، بل إن منها لما يعجب أحدا من الناس، بل إن مناط العجب هو أن نصف هؤلاء الساخطين المتبرمين، إنما يسلقون المحطة والقائمين عليها بأحد الأقلام؛ لأنها تردد على أسماعهم الغناء البالي القديم، ولا تصغي الوقت كله للمستحدث الجديد!
أما النصف الآخر فيسلق المحطة أيضا بأحد الأقلام ويرميها بكل عاب وذام؛ لأنها تصدع آذانهم وتفرق أذواقهم بأسماعهم هذا المستحدث الجديد ولا تتحرر وقت الغناء كله للعتيق القديم!
ولقد تفترق أذواق الناس ولقد تتغاير أحكامهم على الأشياء، وخاصة في هذه الفنون الجميلة، التي يقصد بها إلى التطريب والتلذيذ، لقد يقع ذلك وهو واقع في كل زمان ومكان، ولكن اختلاف الآراء واختلاف الأحكام على ما يتنغم به من فنون الموسيقى الآن، ليس له شبيه في أي زمان ولا في أي مكان!
ذلك بأن المجموع في كل أمة مهما اختلفت فيه أذواق الأفراد وافترقت مذاهبهم في ألوان الموسيقى، فإن هناك ذوقا عاما يجمع شملهم ويضم جمعهم، فهم إذا افترقوا أو اختلفت مذاهبهم، فاختلافهم إنما يكون في حدود هذا الذوق العام، ومن هنا نجد الاختلاف في هذا الباب يسيرا والافتراق رفيقا كان يفضل هذا كذا على كذا، ويستريح هذا إلى كذا أكثر مما يستريح إلى كذا، أما أن ما ينشز على سمع هذا مما يشيع الطرب في ذاك ويدخل عليه الأريحية وبالعكس كما هو الشأن فينا الآن، فهذا كما زعمت لك مما لم يقع له شبيه في أي زمان ولا في أي مكان!
وإن شئت بعد هذا أن تثبت كل شيء في موضعه، وتجري عليه حكمه الصحيح الصريح، فقل في غير تردد ولا خشية: إن الذوق الموسيقي العام قد فقد فقدا في هذه الأيام، فإذا أبيت إلا رفقا في الحكم فقل إن الذوق العام الآن في حال من الثورة والاضطراب ليس من اليسير أن ينتهي معها إلى قرار.
صفحة غير معروفة