151

الأدب الفج

كان من مزايا صديقنا شاعر النيل حافظ بك إبراهيم - عليه رحمة الله - مطاوعة البديهة، وحضور النكتة، يتصرف فيها ويفتن لكل مقام، ما تتعاصى عليه ولا تتعثر على لسانه أبدا.

وكان إلى هذا يحفظ أظرف النوادر وأطرفها وأدعاها للعجب وأبعثها للضحك.

وقد سمعت منه - رحمه الله - النادرة الآتية قال:

قبل أن يوصل ما بين منيل الروضة والقاهرة بالجسور - الكباري - كان الناس يتخذون الفلك - المعدية - في طلبهم العبر من العبر.

وجاء رجل من المدينة ليعبر إلى الروضة من ساحل فم الخليج، وكان الليل قد تقدم فوجد الملاحين يغطان في نوم ثقيل من تحشيش الليل وكد النهار، فما زال بهما حتى بعثهما، ونهض أحدهما إلى موضع المجاذيف، وتولى الثاني الدفة، وأنشأ صاحب المجاذيف يضرب بمجذافيه جبت الماء على أنه ما كاد يفعل مرتين أو ثلاثا حتى تبهر وانقطع نفسه، وانخذلت قواه وأحس شدة جفاف الحلق من أثر الحشيش، فتناول الكوز ولم يكن يعلم أن زميله كان قد أذاب فيه ملحا ليعالج به أذنه، واغترف به من النهر غرفة وأصاب من الماء، فإذا هو ملح أجاج فصاح من فوره بزميله صاحب الدفة: يا ريس عويس! - هو! - إيدك! دخلنا المالح!

ولقد أذكرني هذه الحكاية بعد نسيانها السنين الطوال، شأن أبنائنا من رادة الأدب في هذه الأيام، وحرصهم على الظفر بالشهرة، بل بالبطولة والمجد والخلود بعد علاج منظوم أو منثور في بضعة أشهر أو في بضعة أسابيع، وأخشى أن أقول في بضعة أيام في بعض الأحيان!

وقبل أن أخوض في لجة الموضوع أرى من الخير أن أنقل إلى قراء «الثقافة» صدرا من حديث لمتحدث إذاعة بالراديو في غاية الأسبوع الماضي، كان بعضه يطوف بهذا الموضوع، قال:

لا ريب أن ما نسمع الآن من المقطوعات الغنائية إنما هو من النوع الواطي الرديء، الذي لا قيمة له ولا وزن، ألفاظ سوقية مبتذلة، وتراكيب سقيمة مفككة، ومعان منحطة، وأخيلة ظاهرة التزييف والترفيع، فإذا عدت هذه الأناظيم من الأدب على أي وجه من الوجوه، فهي من الأدب الفسل الوضيع، أو على التعبير العامي الشائع من الأدب «الفلصو» الذي لا محل له بين كرائم الآداب.

وإنني أشك في أن أكثر هؤلاء الناظمين قد أصابو حظا من اللغة، أو جروا على عرق ولو ضئيل من آدابها، إنني أشك في أن أيهم حفظ شيئا من شعر البحتري أو أبي نواس أو أبي تمام، بل إنني لأشك في أن أيهم شق ديوان المتنبي أو أرسل النظر يوما في ديوان ابن المعتز أو في ديوان مسلم بن الوليد، وما أحسب أحدا منهم طالع ولو بنظرة واحدة كتاب البيان والتبيين إذا كان قد سمع باسم الجاحظ، درى بأن لهذا الجاحظ كتابا يدعى «البيان والتبيين».

صفحة غير معروفة