قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور
وقالت الفلاسفة: من أحب ألا يسكر سريعًا فلا ينبغي أن يمتلئ من الطعام جدًا ولا يأكل الحلاوة، بل يأكل من ثريدة دسمة ومن اللحم أكلًا معتدلًا، ومما يُعين على الشراب والاستكثار منه أكلُ الكرنبية والقُنّبيطيَّة والعدسية ويتنقل بحماض الأُترج والأشياء المملوحة، ومما يعجل صحو السكران أن يسقى خلًاّ بماءٍ بارد ويجرَّع من لبن رائب شديد الحموضة ويصبُّ على رأسه خل خمر ودهن ورد وشم الكافور والصندل وماء الورد ويضع أطرافه في ماء حار وإن كانت في معدته بقية شراب فليتقيأ ويطعم لُقمًا من ماء الحصرم والعدس والكرنب، وقال بعض الكتاب:
غادِنا بالمُدام غُرَّة يوم السبت إني أُحب فيه المُداما
وأدِرها عليَّ في الأحد المقبل إني نذرت ذاك اغتناما
وأطعني في السكر يومَ الثُّلاثا ... واعصِ فيه امرءًا على السُّكر لاما
واقطع الأربعاءِ تنفي [بها] النَّحسَ [لئلا] يكون يومُك عاما
والخميس الخميسُ أنيسٌ ... فابتسم بالمدام فيه ابتساما
وأصبحني من المُدامة في الجمعة تجمع بها سرورًا تماما
إنما القادر العظيم تعالى ... جدَّه يغفر الذنوب العظاما
وقد تقدمن أبو نواس في ذكر هذه الأيام ومواصلتها تقدمًا لا يسبق فيه وقد مضت قصيدته الدالية في هذا.
ذكر ما جاء في الصبوح
لم يُرو أن أحدًا من الملوك والسراة المتقدمين والجلة الأولين والآخرين حث على التغليس بالطعام ولا اللِّباس ولا شيء مما يلتذونه غير الشراب فإنهم رأوا الجاشرية وهي شرب السحر عُنمًا حاضرًا والصبوح حظًا وافرًا وأقروا بذلك، واستظرفوا أصحابه ونسبوا مستعمله إلى المروءة ووصفوه بالمروءة، قال شاعرهم:
وأبيض، لا وانٍ، ولا واهنُ القوى ... سقيتُ، إذا أُولى العصافير غَنَّتِ
وقال آخر:
قم فاسقني قبل أصوات العصافير ... أما ترى الصبح ق
نادى بتنوير وقال إسحق الموصلي:
خليليَّ هيَّا، نصطبح بسواد ... ونَروِ قلوبًا هامُهنَّ صَوادِ
وقد استقصينا كثيرًا مما قيل في الصبوح عند ذكرنا الأشعار التي أوردناها على حروف المعجم في آخر هذا الكتاب.
وسأل قيصر ملك الروم قُسَّ بن ساعدة الإيادي: ما أصلح أوقات الشراب، قال: أول النهار، ألا ترى الدواء يبكر به والمسافر يدلج لحاجته، لأن العقول أول النهار أذكى والفِطن أصح. قال والبة بن الحباب:
قم يا نديمي ق قضيت لبانةً ... من طول ليلِك في رقادك فاقعُدِ
وتداوَ من مرض الخمار بشربه ... تنفي الخُمار وإن بدا لك فارقدِ
قال: الصبوح، فقلت: هعات، فقال: خذ منِّ، فقلت: أبتْ تطاوعني يدي
فرددت منه الروح فيه بشربةٍ ... درياقةٍ تشفي سليم الأسود
وقال آخر:
اشرب الراحَ على روحِ السِّحرْ ... وأرِح قلبَكَ من حوكِ الفِكرْ
واسقينا قهوةً مشمولة ... ليس للهمِّ لديها مُستقَرٌّ
حاجة الروح فإن قضيتها ... فنجاح الأمر يُرجى في البُكرْ
أي شيءٍ حسنٍ لم تَرَهُ ... في عروس القُفص تُجلى في القمر
وهي عذراءُ ولمَّا تُفتَرع ... عذرة العذراء في مثل السحر
واغتنم فيه الهواءَ المُرتدي ... برداءِ الصفوِ من قبل الكدر
وارتضع في السَّحرِ الأكبر ما ... ما يترك العَيْنَ من الهمِّ أثَر
وقال كُشاجِم:
هذا الصباحُ فما الذي ... بصبوح صحبك تنتظرْ
خذ من زمانك ما صفا ... ودَع الذي فيه الكَدَرْ
فالعمر يقصر عن معاتبة الزمان على الغيرْ
وقال:
ألذُّ العيشِ إتيان القبيح ... وعصيان النصيحة والنصيح
وإصغاءٌ إلى وترٍ ونايٍ ... إذا ناحا على دنٍّ جريح
غداةَ دُجنةٍ زطفاء تبكي ... إلى ضحك من الزَّهَر المليح
وكان عبد الله بن المعتز ربما كَرِهَ الصبوح فكتب إليه النميري:
قبَّح الله شرب كل نبيذٍ ... يُتوخى في وقت شُرب التجار
إنما يشربُ الملوك مع الفجر وفي الروح قبل نصف النهار
1 / 79