وقال محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر: جزت يومًا إلى إبراهيم بن المهدي فرأيته كئيبًا مهمومًا فقلتُ له: ما لي أراك بهذه الحالة، فقال: ويحك دعني، فقلت: والله لا أدعك حتى أعرف خبرك، قال: لم يكن أحد سمع غنائي غير الرشيد، فقال لي ليلة: جعفر بن يحيى صديقُك ولا تحتشم منه، وأنا أحب أن تغني له صوتًا، فبحياتي إلا فعلت، ودعا لي بألف درهم، فغنيته وحُمل المال إلى منزلي، وكنا البارحة عند المعتصم فقال لي سيما الشارباني: أشتهي أن تغني لي ذلك الصوت، قلت أيّما، قال: لا أدري، ولكن تغني كلَّ ما تدري فإذا مر عرَّفتُك، فورد عليَّ ما تمنيت معه الموت، فأيُّ غمٍّ يكون أشد من هذا.
ودخل أحمد بن الحسين المتنبي على عليّ بن إبراهيم التنوخي، فعرض عليه كأسًا فيها نبيذ دوشاب أسود فقال:
أغار على الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحُسين
كأن بياضها والراحُ فيها ... بياض مُحدق بسواد عينِ
شربها فقال له:
مَرَتكَ ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهُنئتها من شارب مسكر السُّكر
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
وكان بدر بن عمار قد تاب من الشراب مرة بعد أُخرى فرآه يشرب فقال:
يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في مِلكِهِ لا مُلكهِ
في كل يوم بيننا دمُ كرمةٍ ... لك توبةٌ من توبةٍ من سفكه
والصدق من شيم الكريم فقل لنا ... أمن الشراب تتوب أم من تركه
وشرب عنده ليلة فلما كان من غدٍ عُرض عليه الصبوح فقال:
رأيت المُدامةَ غلاَّبةً ... تهيج للمرءِ أَشواقهُ
تُسيئ من المرءِ تأديبه ... ولكن تحسِّن أخلاقهُ
وقد مُتُّ أمسِ بها موتةً ... وهل يشتهي الموت من ذاقه
وقال يحيى خالد: كنت أهوى جاريتي دنانير وهي لمولاتها دهرًا، فلما وضع المهدي الرشيد في حجرياشتريتها فلم أُسر بشيءٍ من الدنيا سروري بها، فما لبثت يسيرًا حتى وجَّه المهدي الرشيد غازيًا إلى بلاد الروم، فخرجت معه، فعظم علي فراقها، وأَقبلتُ لا يُهنئني طعامٌ ولا شرابٌ، صبابةً بها وذكرًا لها، فتوغلنا في بلاد الروم وأصابنا برد شديد، وثلجٌ كثير، فإني ليلة في مضربي، أتقلبُ في فراشي تذكرًا لدنانير، إذ سمعت عناءً خفيًا وضرب عودٍ بالقرب مني فأنكرت ذلك، وجلست في فراشي وتسمعت صوتًا شجاني من غير أن أفهمه، فقمتُ وقد غلب النومُ أهل العسكر فتخللت المضارب حتى انتهيت إلى خيمةٍ من خِيم الجند فإذا فيها سراجٌ فدنوت منه، فإذا فتى جالسٌ وبين يديه زكرة فيها شراب وفي حجره عودٌ وهو يشرب ويتغنى:
ألا يا لقومي أطلِقوا غُلَّ مرتَهَنْ ... ومُنُّوا على مستشعر الهمِّ والحَزنْ
أَلم ترَها بيضاء وردًا شبابُها ... لطيفة طيِّ البطنِ كالشادن الأغَنْ
تذكر سَلْمَى وهي نازحةٌ فَحَنْ ... وهل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطن
وكلما غنى بيتًا بكى وتناول قدحًا فصبَّ فيه من ذلك الشراب، فيشربُ ثم يعود فيفعل مثل ذلك وأنا اراه فأبكي لبكائه، ثم سلمتُ عليه فرد السلام، واستأذنت في الدخول فأذن، فلما دخلت أجلني وأوسع لي، فقلت: يا فتى، أخبرني بخبرك وما سبب هذا البكاء فقال: أنا فتى من الأبناء ولي بُنيَّةُ عمٍّ نشأنا حبيبين فعَلِقْتُها وعلقتني، ثم بلغنا فحُجبت عني، فسألت عميّ فزوجنيها، ومكثت حينًا أحتال لمهرها، حتى تهيأَ فأديته وأَعْرستُ بها، فلما كان يوم سابعها ضُرب علي البعث فخرجتُ وبي من الصبابة بها والشوق لها ما الله به عليم، فإذا أصبتُ شرابًا أخذت منه الشيء ثم أفعل ما ترى تذكارًا لها، فقلت: هل تعرفني، قال: قلت أنا يحيى بن خالد، فنهض قائمًا، فقلت له: اِجلس، اِلقني غدًا أولَ حركة الناس، فإني صائرٌ من أمرك إلى ما تحب، ووافق ذلك رسولًا يُنفذ إلى المهدي، فلما كان من غدٍ وتهيأ الناس للرحيل، فأول من لقيني ألفني، فقلتُ ما اسمك، وفي قيادة من أنت فخبَّرني، فدخلت على الرشيد فخبرته خبره، فأمر له بعشرة آلاف درهم وأصحبته الرسول.
1 / 5