ثم فكرتُ في أمري وأنا لا أعقل من السرور، فقلت هذه جارية مغنية بلغها صوت من صنعتي فأرادت أن تأخذه عني، فقلت: يا سيدتي: أتأذنين في أن أقرّب ما حضر من طعام وشراب وأُغنيك ما لعله بلغك عني من متخيَّر أصواتي، فقالت: ما على ذلك من فوتٍ ولكن قُم الآن وشأانك، فاقض حاجتك ثم تصير إلى ما تريد، فقمت إليها وقد أخذني الزَّمع حتى لا أملك نفسي مهابةً لها فلما فرغت مما لك أكن آملُهُ لا تسمو همَّتي إليه قلت: يا سيدتي هل لك في الطعام وأدعو بالعود فأُغنيك ما قصدتِ إليه قلت: يا سيدتي هل لك في الطعام وأدعو بالعود فأُغنيك ما قصدتِ إليه، قالت: عسى أن يكون ذلك في يوم غير هذا، ومدت يدها إلى قناعها فاعتجرت به ونهضت مسرعةً ولم أُحر جوابًا وبقيت متحيرًا فلما صارت إلى الدهليز ودعت بجواريها قلت: سألتك بمن ترتجين شفاعته ما خبرك؟ قالت: لو تركت المسألة كانت أَحب إليك وأعود عليك، قلت: لا بد لي من علم حالك، قالت: أما إذا آليت فسأصدقك: لي ابن عمٍّ، وهو بعلي، وكان يضنُّ بي وأضنُّ به، وكلانا معجَب بصاحبه، فخالفني إلى حبشية لي مشوهة المنظر، فأقسمت بالأيمان المحرجة أن أطوف بغداد حتى أبذل نفسي لأقبح من أرى وجهًا، وأوحش من أقدر عليه صورة، فأنا أنصرف من الفجر إلى هذه الساعة من الهاجرة، فما رأيت بها على غاية ما طلبته، سواك، فبررت قسَمي، وإن عاد إلى مثل فعله عدتُ إليك لأني لم أجد أقبح منك. وهذا يسيرٌ في جنب ما تبلغه الغيرة بصاحبها، ثم تولت عني، وبقيت أخزى ممن دخل النار، فوالله يا أبا الحسن ما ظننت أن فرط القبح ينتفع به قط حتى كان ذلك اليوم، قلت: هوِّن عليك فإن القرد إنما يقعُ السرور به والضحك منه لتجاوزه الحّد في قبح الصورة، قال: فاكتم ذلك عليَّ، قلت: نعم.
وحكي أن أبا نواس والحسين بن الخليع وصريعًا والعباس ابن الأحنف خرجوا إلى متنزه لهم ومعهم رجل يقال له يحيى بن المعلى، فحضرت الصلاة، فقام يصلي بهم فنسي الحمد وقرأ: قل هو الله أحد فأُرتج عليه في نصفها، فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلطًا ... في قل هو الله أحد
وقال الخليع:
قام طويلًا راكعًا ... حتى إذا أعيا سجد
وقال ابن الأحنف:
يزحرُ في محرابه ... زحير حبلى بِوَلَد
وقال صريع:
كأنما لسانُه ... شُدَّ بحبل من مَسَد
قال محمد بن يزيد المبرِّد: خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد بأرمينية فامتدحه، فأمر له بعشرة آلاف درهم فقبضها، وسأله الإذن له في رحيله، فأعطاه نفقةً لسفره وودعه، ومضت أيام كثيرةٌ، فركب خالد متصيدًا، فرآه تحت شجرةٍ وقدامه زُكرة فيها نبيذ وغلام حسن الوجه بيده طُنبورٌ يغنيه، فقال: حبيبٌ قال: نعم، خادمك وعبدك، قال: ما فعل المال، قال:
علمني جودُك السماح فما ... أبقيتُ شيئًا لديَّ من صِلَتِكْ
ما مرَّ شهر حتى سمحت بِهِ ... كأن لي قدرةً كقدرتك
تنفق في اليوم، بالهبات وفي ... أشياءَ ما تجتنيه في سَنَتِكْ
فلست أدري من أين تنفق لولا أنَّ ربي يُمدُّ في هبتك فأمر له بعشرةِ آلاف أُخرى فأخذها وانصرف.
1 / 43