وكان أبو عبّاد النميري يقول: لو وجدت خمرًا زيتية ذهبية أصفى من عين الديك وعين الغراب ومن ماء المفاصل، وأحسن حمرةً من الزاد ومن نجيع غزال ومن قوة الصباغ، لما شربتها حتى أعلم أنها من عصير الأرجل وأنها من نبات القُرى ووسط دسكرة وأن العنكبوت قد نسج عليها، وحولها دجاج وفراريج، وتمام ما أُريد أن تكون رقطاء، ويكون بائعها شيخًا، لا يفصح بالعربية مجوسيًا اسمه شهريار أو يهوديًا اسمه شلوما أو نصرانيًا اسمه يامروا.
وفي وصية أبي ثمان الجاحظ لشطار اللصوص: إياكم وحبَّ النساء وسماع ضرب العود وشرب نبيذ الزبيب واللعب بالشطرنج، وعليكم باتخاذ الغلمان، فإن غلامك غدًا أنفع لك من أخيك وأعونُ لك من ابن عمك، وعليكم بنبيذ التمر وضرب الطنبور واللعب بالنرد وما كان عليه السلف، واجعلوا النقل باقلاء، وإن قدرتم على السفرجل ووالتفاح والفستق واللوز، واتخذوا الريحان، وإن قدرتم على الورد والياسمين، واجعلوا لهوكم الحمام وهراش الكلاب، وإن قدرتم على الكباش والصقور والفهود والديكة فلا تقصروا في أمره، فإن له صبرًا ونجدةً ورغوانًا وتدبيرًا وإعمالًا للسلاح، هذه وصيتي فافهموها واعملوا بها ولا تتعدوها.
ودعا الأخطل شابٌ من شباب الكوفة فقال: يا ابن أخي، أنت لا تحمل مئونتي، فلم يزل يسأله حتى مضى معه فأتى البا فنادى: يا شقراء، فخرجت إليه أمه، فقال لها: هذا ضيفي أبو مالك فباعت غزلًا لها واشترت له لحمًا ونبيذًا وريحانًا فأكل وشرب فقال:
لعمرك ما لاقيت يوم معيشةٍ ... من الدهر إلا يوم شقراء أقصرُ
حوارية لا يدخل الفقر بيتها ... مطهرةٌ يأوي إليها مطهرُ
إذا قلت يا شقراءُ قامت كأنها ... من الوحش ظبيٌ فاتر الطرف أحور
أقمنا بها نسقي سلافة قهوةٍ ... تموت بها أوصالنا ثم تنشر
كأن جلود القوم من طيب نشرها ... يُعَلُّ بها مسك ذكيٌ وعنبر
وكان جحظة من أنبناءِ البرامكة، كاتبًا شاعرًا ومغنيًا حاذقًا، وكان مع ذلك قبيح الوجه، جاحظ العينين، مشوه الخِلقة، فحدث عنه علي بن سعيد الكاتب قال: حدَّثني جحظة قال: إن كتمت عليَّ حدثتك بحديث ما مرَّ على مسامعك قطُّ مثله، قلت: أنا موضع لسرِّك والمجالس بالأمانة قال: بينا أنا جالس على باب داري يومًا إذ أقبلت جاريةٌ متنقبة راكبة على حمارٍ، بين يديها وصائف كالغزلان يحففن بها، ويمسكن عنان حمارها، وقد سطعت السكة من روائح طيبها، فبقيت حائرًا مبهوتًا أعجب من كمال خلقها، ونور ما بدا لي من وجهها، فلما حاذتني وقفت فسلمت عليَّ بعد أن تأملتني ساعة، فرددت عليها أحفي سلام وأبرَّه، وقمت على قدميَّ إجلالًا لها وإعظامًا، فقالت: يا فتى هل لك في منزلك محتَمَل للقائلة، في هذا اليوم، قلت: يا سيدتي، على الرحب والسعة ولك الفضل والمنة، فما كربت أن ثنت رجلها ونزلت وقالت: ادخل بين يديَّ، وأمرت جواريها فتوارين بموضعٍ أشارت إليه ثم دخلت وأنا أحسب جميع ما أراه نومًا لا يقظة وشكًا لا يقينًا، فلما استقر بها المجلس، مدت يدَها إلى خمارها فحلَّته، فكانت كما قال أبو حيَّة النُّميري:
فألقت قناعًا دونه الشمس واتَّقت ... بأحسن موصولين كفًّا ومعصما
1 / 42