قال محمد بن الحارث بن بُسْخُنَّر عرضت لي حاجة إلى إبراهيم بن المهدي فبكرتُ إليه في يوم غيم ورذاذ فصادفتهُ قد لبس ثيابه وأُسرجت دوابه، فلما وصلت إليه خلعَ ثيابه وأَمَرَ بحطِّ السروج ثم قال لي: أردتُ الركوب إلى الخليفة، فلما رأيتك آثرت نفسي بك، وهذا يوم حسن لا يضيعه إلا من غُبن حظه، فأقم حتى أُطعمك اللحم طريًا وأسقيك الشراب صرفًا وأُسمعك الغناء، قلت: ما شيء أطيب إليَّ مما عرضه الأمير عليَّ، فدعا بضربٍ من لحوم الجدا والحملان والطير المسمن، فاتخذت له منه ضروب شواءٍ وكباب وقلايا، فأكلنا منها حاجتنا ثم أتينا بألوان من الشراب المطبوخ والمشمس، فاختار منه وسقاني، ثم دعا بجوارٍ فضربن عليه وغُنى أصواتًا من صنعته، فمرَّ لنا ألذُّ يومٍ وأطربه.
وكانت لأم جعفر زبيدة جارية تسمى جُلنار أحسن الناس وجهًا وأطيبهم غناءً، وكانت عُليَّة بنت المهدي تمازحها وتكنيها بأبي الورد، فغلبت هذه الكنية على اسمها حتى صارت لا تُعرف إلا بها، فقالت أبو الورد: كنت ذات يومٍ واقفةً على رأس أم جعفر والسماءُ متغيمة، إذ هطل المطر، فقالت لي أم جعفر: اذهبي إلى أختي عُلية فأقرئيها مني السلام، وقولي لها ألا ترين إلى هذا اليوم وطيبه، فعلى أي شيء عزمت فيه. فخرجت عنها، حتى دخلتُ على عُلية فإذا هي جالسة في طارمة في وسط بستان لها والمطر يقع على الطارمة فيجيئُ له صوتٌ شديدٌ وفي يدها عود وهي تغني وعلى رأسها جاريةٌ كأنها خوط بانٍ، حسنة الوجه، فإذا غنت عليه صوتًا قالت لها اسقيني فتسقيها، فلما رأتني فرحت بي وقالت: الحمد لله الذي منَّ علي بك، فأكببت على البساط فقبلته، فقالت: لا والله إلا معانقة، فعانقتها، وقبلت فاها ورأسها ويديها وأديتُ إليها رسالة أم جعفر، فقالت: خبري أني منذ السحر أشرب فوق هذه الطارمة على صوت المطر، والذي عزمتُ عليه، إتمامُ السرور والشرب، فلستُ مفارقتك اليوم. فقلتُ لها: يا سيدتي أم جعفر تنتظرني، فأُدي إليها الرسالة وأرغب إليها في المسامحة بالعودة إليك فقالت: أنا أجعل الرسول غيرك. وبعثت إليها جارية تعرفها بحالها، وتسألها في أن تؤنسني في المقام عندها، فأقمتُ ودعت لي بالطعام فأكلتُ، وجعلت تسقيني وتشرب وتغنيني وأُغنيها، فبينا نحن كذلك إذ دخل الخادمُ فقال: إبراهيم أخوك، فدعت بطبق عليه مأكولٌ، وقالت: هاتوا عودًا حنانًا فضعوه ناحيةً، فأتيت بذلك وإبراهيم واقفٌ بالباب، ثم أذنت له فدخل فأكب على رأسها، فقالت: لا تكلمني أو تأكل، ففعل، ثم دعت بقدحٍ فيه رطلان فشربه، ثم قالت: خذ عودك وآخذ عودي، ففعل، فما زالت تغني صوتًا ويغني صوتًا وأُغني ونشرب، إذ دخل الخادم فقال: أخوك يعقوب بالباب، فأمرت بإحضار طبقٍ عليه طعان، ثم قالت أحضروا نايًا جيدًا، فأُحضر ثم أذنت له فدخل، وأكب على رأسها فقبله، فقالت: اجلس وكُل، فأكل، ثم دعت برطلين في قدح فشربه وتناول الناي فزمر وكان أحسن الناس زمرًا وضربًا جميعًا، فسمعتُ والله شيئًا ما سمعتُ أحسن منه قط، فسكرتُ من الشراب والطرب فلم أعقل ورحت أتمايل سكرًا حتى دخلت على أم جعفر فحدثتها بما جرى، فجعلت تضحك وأمرت لي بخلعةٍ من ثيابها.
وكان يقال: لا يُعرف في بنات الخلفاء مثل عُلية بنت المهدي جودة شعر وحسن صنعة، وكانت أكمل النساء عقلًا ودينًا وصيانةً ونزاهة، وكان الرشيد يعظمها ويجلسها معه على سريره، وكانت تحبُّ خادمًا للرشيد يقال له ظلٌّ فتكنّي عنه، من ذلك قولها فيه:
أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى (ظلٍّ) لديكِ سبيل
من نلتقي من ليس يُرجى خروجُهُ ... وليس لمن يهوى إليه دخول
ومن قولها فيه:
قُل لذي الأصداغ والطُّرة والوجه المليحِ
ولمن أشعل نارَ الحبالحبِّ في قلبٍ قريح
ما صحيح أَثَّرت عيناك فيه بصحيح
ومما قالت وغنته في طريقة الرمل:
سلِّم على طرفِ الغزال الأغيد الحلو الدلالِ
سلِم عليه وقلْ له ... يا غُلَّ ألباب الرجال
خليت جسمي ساجيًا ... وسكنت في ظلِّ الحجالِ
وبلغت مني غاية ... لم أدرِ فيها ما احتيالي
ومن قولها وغنائها:
جاءني عاذلي بوجهٍ قبيحِ ... لائمًا في وصالِ وجهٍ مليحِ
1 / 3