قرأت هذا الكلام وهمست لنفسي: هون على نفسك يا رجل وأرخ لأعصابك عنانها، لقد كانوا أوهموك أن الفلسفة عالم شائك ملغز غامض، وإذا بالفلسفة أسطورة من نسج الخيال، تحكي عن الأرباب وأبناء الأرباب، كما يحكي شاعر الأساطير، هذا جميل، لكني في الواقع أعتب على رجال الفلسفة عتبا شديدا؛ فما كان لهم أن يقطبوا الجبين ويصطنعوا الجد والوقار في مشيهم وجلوسهم، ويرسلوا اللحى والذوائب تنوس على أعناقهم وأكتافهم، فيم هذا كله وبضاعتهم أسطورة تروى في دعة واسترخاء ؟
وكدت أهمل بقية الفصل الأول؛ لأن أسطورته في الحق لم تصادف من نفسي قبولا لدمها الثقيل، وكدت أتعجل الخطى إلى الفصل الثاني لعله يحكي أسطورة فيها شيء من الحب والغرام؛ لأن ذلك أحب إلى النفس وأقرب إلى الفؤاد، لكني عدت فتمهلت وواصلت قراءة هذا الفصل الأول نفسه، فإذا بالكاتب يعرض «آراء» أورفيوس، آراء؟ آراء من؟ آراء رجل ليس له وجود؟ إن الشخصيات الوهمية في القصص الخيالية تجري ألسنتها بآراء الكتاب الذين كتبوا تلك القصص، لكن بلسان من سينطق هذا الشخص الخيالي بآرائه؟ اللهم صبرا، هات يا أورفيوس ما عندك من آراء.
مذهبه في أصل العالم هو: «... من الطين خرج الزمان، وكان الزمان وحشا مخيفا في صورة ثعبان له رءوس ثلاثة؛ رأس ثور، ورأس أسد، ووجه إله بينهما ... ونشأت مع الزمان الضرورة ...»
فوالله لقد انفتح فمي عن صيحة لم أشعر بانبعاثها إلا بعد انطلاقها! ماذا يقول هؤلاء الناس؟ ما هذا الزمان الذي خرج من الطين؟ وما هذه الضرورة التي نشأت مع الزمان؟ أيكون يا رباه لهذا الكلام معنى وقد أغلقت لي نوافذ رأسي فلم أعد أفهم ما يفهمه سائر الناس؟ اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب غبيا أو محروما من صفاء الإدراك فامح اللهم غباوتي وحرماني، وأحمدك اللهم حمدا كثيرا على أن جعلتني مهندسا أبني للناس العمائر والجسور؛ فذلك أجدى علي وعليهم من قصة الزمان الذي خرج من الطين!
ومهما يكن من أمر فقد عرفت الآن ما الفلسفة، هي مزيج من أساطير وكلام لم يقصد به أن يدل على معني مفهوم. أأكتفي بهذا وأنصرف إلى عمائري وجسوري؟ لا، بل أقرأ الفصل الثاني.
الفصل الثاني عن أرستوفان شاعر الملهاة عند اليونان! الحق أني أعجبت بهذا الفصل أشد إعجاب، لكني سألت نفسي حائرا دهشا: لقد ظننت من الفصل الأول أن الفلسفة أساطير الأولين، فإذا هي شيء آخر، هي تاريخ للأدب. فيم إذن يجعل هؤلاء الفلاسفة أنفسهم طائفة قائمة بذاتها وهم لا يصنعون سوى أن يؤرخوا للآداب؟ ليس في هذا الفصل كلمة واحدة لا تدور حول ذلك الشاعر المسرحي وفنه، فما الذي أدخل الشاعر وفنه في عالم الفلسفة إلا أن تكون الفلسفة اسما زائفا بغير مسمى، وكان الصواب أن يقال أدب وتاريخه؟
ثم فتحت الفصل الثالث وطالعته، فإذا هو عرض لتمثيلية من تمثيليات أرستوفان، هي تمثيلية السحب، ساقها مؤلفنا الفاضل بهذا الإطناب والتفصيل؛ لأنها تصور شخصية سقراط، وسقراط فيلسوف يظهر أن له مكانة عليا لأني سمعت به كثيرا، فقلت لنفسي: ها هنا في هذا الفصل رائحة طعام. لا بد أن يكون «عالم الفلسفة» مليئا بهذه الشخصيات، وعمل الذي يدرس الفلسفة هو أن يستعرض صور تلك الشخصيات.
لكن الفصل الذي يليه لم يمهلني كثيرا حتى عاد فغير لي معني الفلسفة؛ لأنه يصف لنا مكانا كان يعلم فيه أحد الفلاسفة تلاميذه. لو أنه جاء بطرف من الآراء التي كانت تموج مع الهواء في ذلك المكان، لكان ذلك أقرب إلى ما تصورته عن الفلسفة بادئ ذي بدء، لكنه وصف للمكان ولا شيء غير ذلك. صور لنفسك كاتبا وصف لك جامعة القاهرة من حيث جدرانها وغرفها ومماشيها وقبابها وحدائقها، فهل ترى من حق ذلك الكاتب أن يسمي وصفه هذا «جزءا من عالم الفلسفة»؟ لكنه على كل حال وصف جميل. •••
بذلك كاد ينتهي الجزء الأول من أجزاء الكتاب، ليبدأ الكاتب في جزء ثان عن الفلسفة الإسلامية، وأقبلت إقبال من يريد أن يفهم، فإذا بمؤلفنا الفاضل يعترف صراحة في الصفحة الثانية أن الذي «سوف نتحدث عنه لا يعد في صميم الفلسفة بمعناها الخاص.» فضربت على منضدتي بيدي ضربة انفعالية، وقلت: «لكني اشتريت الكتاب لأدخل «عالم الفلسفة»، وها هو ذا الكاتب قد أوصد دوني الأبواب.» ومضيت بعد ذلك سطرين أو ثلاثة لأرى المؤلف الفاضل يقول: «إن كل إنسان فيلسوف.» يا خبر أسود! ضاعت عليك قروشك يا بطل! أنت فيلسوف ولا تدري أنك فيلسوف! أنت فيلسوف منذ ولدت، بل منذ كنت في جوف أمك جنينا؛ لأنك إنسان منذ ذلك الحين! ولكن إلى الجحيم بقروشي وإنها لقليلة معدودات، ما دمت قد كسبت بها علمي بأني - فوق كوني مهندسا - فيلسوف!
ومع ذلك فقد مضيت أقرأ؛ لأرى الكاتب يتتبع ما أسماه «أمواج الفكر الإسلامي»، والفكرة في غاية الروعة ؛ إذ أراد المؤلف الفاضل أن يؤرخ للفكر الإسلامي على نحو طريف جميل، وذلك بأنه يرى أن المسلمين كانوا يديرون مجهودهم الفكري حول نقطة معينة في كل فترة معينة، فلو حصرنا هذه النقط المركزية في تتابعها، فقد تتبعنا خطوات التفكير الإسلامي على صورة نابضة بالحياة.
صفحة غير معروفة