واعتبر رجوعه إلى الحياة التي سبق أن ضاق بها غنما وأي غنم. وحدث أن انقطع عن قشتمر على غير عادة سابقة، مرت ليلة ولحقت بها أخرى، فذهب الأصدقاء يتحرون عن سر غيابه في مظانه ما بين خان الخليلي والعوامة وشقة الزمالك، وعرفنا الحقيقة المزعجة، وهي أنه يعالج في مستشفى المعادي على إثر ذبحة صدرية دهمته، وقصدنا المستشفى ونحن من القلق في نهاية، واستقبلنا هناك أخوه توفيق وشقيقته أفكار فأهديا إلينا السلام والطمأنينة بأنه عبر الخطر ولكنه ممنوع من الزيارة بضعة أيام، وقد صار توفيق صورة من يسري باشا في آخر أيامه، أما أفكار فتبدت عجوزا عجفاء مسحاء مكرمشة الوجه كأن لم يجلس الجمال يوما على عرش كينونتها ويتيه ويتحكم، وتمتم طاهر عبيد: ما أكثر الأردية التي يلفعنا بها الدهر.
ولما اجتمعنا به بعد يومين سر بوجودنا حوله سرورا طفح به وجهه الذابل، وحدثنا عن الذبحة فقال: حضورها وحشي مرعب، فإذا مرت استرد الإنسان طبيعته وكأنه لم يكن على مبعدة قيراط من الموت.
وقال إنه كان وحده في غاية من السطل، وقام ليتناول عشاءه في تلك الساعة المتأخرة من الليل عندما اشتعل مس كهربائي في أعلى صدره، وعصره الألم عصرا وأوشك أن يختنق فتأوه وصرخ وانطرح على الأرض يتقلب على الجنبين، واتصل الخادم ببيت شقيقه فجاءه بصحبة طبيب صديق ثم نقلوه إلى المستشفى.
وغادر المستشفى بعد ثلاثة أسابيع ورجع إلى قشتمر ليملأ مكانه الذي لا يملؤه سواه. وطرق بابه الدواء والرجيم. قال: يريدون سلب اللذة الباقية لي في الحياة.
فقال صادق صفوان: أيضا للروماتيزم رجيم خاص وللضرورة أحكام.
فقال حمادة: ولكن الحياة إما أن تكون حياة أو لا تكون.
وتبين لنا فيما بعد أنه يواظب على تناول الدواء، أما الرجيم فتخطاه كأن لم يكن، استمسك بعاداته الغذائية بكل جرأة واستهانة، ولم يمتنع عن الكيف ولم يقلل منه، وخاطبناه بلسان الوعظ فأمطرنا بسخرياته حتى سأله طاهر عبيد: هل قررت الانتحار؟
فقال ضاحكا : قررت ألا أتهاون في حب الحياة.
حتى النساء لم يقلع عنهن تماما، يستضيفهن ولو مرة في الشهر. وسأله صادق باسما: ألا تعفيك السن من هذا الواجب؟
فقهقه قائلا: لكل حال ما يناسبها!
صفحة غير معروفة