ومع الحرب هبت على حينا رياح التغيير لا ممتعة ولا سارة. شق شارع طويل عريض بين شارع العباسية وشارع الملكة ناظلي، واخترق الحقل القديم الذي كنا بفضله نتمتع بجمال الريف بالإضافة إلى حضارة المدينة، ورحل عم إبراهيم وسكت نعير الساقية واختفت الخضرة المنعشة جارفة معها الشفافية والعذوبة والروائح الذكية، وحلت محلها على جانبي الطريق الجديد خرابات قاحلة سرعان ما استغلت لبيع نفايات الجيش البريطاني من السيارات الكهنة وتلال المطاط والأدوات الميكانيكية والبطاطين المستهلكة. لم نعد نسمع إلا الدق وضوضاء الشارين وشجار المتساومين، ولا نرى إلا غبار عربات النقل. وفقد الشارع العمومي هدوءه، وجرت فوق سطحه عشرات اللوريات، وتضاعف عدد الترامات واكتظ بعمال الأورنس، وانتشر الجنود حتى في المقاهي البلدي. وبيعت جملة من سرايات العباسية الشرقية المطلة على الشارع العمومي، وشرع في إقامة عمائر شاهقة في مكانها وأخذ يتمايل في الأفق منظر حي جديد مكتظ بالسكان والدكاكين، ويطوي في نموه المتصاعد الحي القديم بسراياته المعدودة وبيوته الصغيرة الأنيقة وسكانه المعدودين الذين تربط بينهم روابط الأسرة الكبيرة الواحدة. وفي أثناء ذلك، قبيل شروع صادق في زواجه الثاني وفي خلاله، وثب صديقنا وثبة أعلنت للملأ ثراءه، فقد استأجر في العمارة الجديدة التي تشطب أمامه دكانين كبيرين في أسفلها، وجعل منهما دكانا كبيرا، وهيأه بالديكورات والتجميل، وانتقل إليه، فلم يعد الخردواتي الوحيد ولكن الخردواتي الفريد الذي يضاهي في منظره ومعروضاته محال وسط البلد، ونقش أعلى مدخله على لوحة طويلة عريضة اسم «النادي» يقرأ نهارا بالخط الكوفي وليلا بالمصابيح الكهربائية، وجلس وراء منصة الحساب مستخدما للعمل موظفا شابا يدعى رشدي كامل، وبطيبته المعهودة قال لنا: حلمي يتحقق بفضل الله أولا والزين باشا ثانيا.
فقال طاهر مداعبا: وهتلر ثالثا!
ومضى ينفذ ما اعتزمه. ولعل طاهر كان الوحيد الذي أبدى شبه معارضة حين قال: أعتقد أنه يكفي الإنسان زوجة واحدة إن حرص حقا على راحة باله.
فقال صادق: إحسان عاقلة.
فقال طاهر: النساء يفكرن بقلوبهن.
وأفضى صادق بنواياه إلى أمه ست زهرانة فارتبكت المرأة وقالت له: لم يحدث هذا في أسرتنا قط.
ولما بثها شكواه في شيء من الصراحة دعت له بالتوفيق، ولكنه لقي قهرا في مصارحة إحسان حتى تمنى لو كانت على غير هذا المثال من الطيبة والطاعة والنشاط رغم بدانتها المتنامية. وطبعا هو لم يواجهها إلا بعد أن اطمأن إلى موافقة ليلى وأمها، بل إن ست عيشة لم تبارك رغبته إلا بعد أن أقنعها بأنه لم يقدم على خطبة ابنتها إلا بسبب مرض زوجه الأولى التي يتعهد بالاحتفاظ بها رغم كل شيء، وعند ذاك قالت له حماته الجديدة: «بارك الله فيك فنحن لا نحب أن يقال عنا إننا نخطف الأزواج من زوجاتهم.» ورضي صادق بصفة عامة ولو أنه تمنى لو كانت تصغره ببضعة أعوام، كما أنه تضايق بعض الشيء لما عرف أنه كان لها خطيب سابق انتهت خطبته بالفسخ، ولكنه فسر ذلك بفقر الأسرة وعجزها عن تجهيز العروس بما يليق، ومما أخبرنا به أيضا أن أمه - ست زهرانة - صارحته بأنها لا تطمئن كل الاطمئنان للموظفات، وكيف أن زبيدة هانم حرم الزين باشا سخرت من تلك الأفكار البالية قائلة إن بنات الأسر الكريمة يتعلمن اليوم ويتوظفن كالرجال ولا غبار على ذلك. المهم أنه خلا إلى إحسان، وقال لها وهو يشعر بحرج لم يشعر بمثله من قبل: إحسان، علم الله أنك أعز مخلوق في حياتي.
والغريب أنها حدجته بنظرة قلقة كأنما حدس قلبها ما ينوي قوله. - لم تعد لي حيلة ولا صبر، ومن الخير لكلينا أن أتزوج.
توقع غضبة لو وقعت لكانت الأولى في حياتهما غير القصيرة. ألقت عليه نظرة سريعة ثم غضت بصرها كالخجلة أو الخائفة، ثم أخفت وجهها في راحتيها. - سيظل هذا البيت بيتك وبيت أولادك ولن يفرق بيننا شيء.
وكأنما لم تجد إلا الصمت لتعاقبه به.
صفحة غير معروفة