فتساءل بسخرية: وما وجه الحكمة في ذلك؟ - على الأقل حتى لا يهدر تعب مرحلة طويلة من الحياة!
فقال باستهانة: كلام فارغ.
ولم يتردد فهجر كلية الحقوق غير آسف وغير مكترث لرجاء والدته، ودعاه التحرر إلى تحقيق أحلام ألحت على رأسه منذ قديم، فاستأجر شقة في خان الخليلي وأثثها على الطريقة الشرقية، كما أعد لنفسه ناديا خاصا في عوامة بشارع الجبلاية ، وقال لنا بسرور: كي يتسع أمامكم مجال التسلية.
جاء الوقت ليشبع شغفه بالحياة العريضة، حسية وعقلية، في رحلته الطويلة المتحررة من أي التزام. وكما يأبى الانتماء لرأي فهو يرفض الارتباط بعمل، بل لم يتأثر تأثرنا بزواج صادق وطاهر، فقد هيج الزواج حنيننا إلى الحياة الزوجية، أما هو فلم يتزعزع أنملة عن موقفه، وتردد نهاره بين خان الخليلي وشارع الجبلاية، يقرأ، يستمع إلى الأسطوانات، يشرب القليل من الخمر وعشق الحشيش، ثم لا بد أن يختم يومه بجلسة ساعتين على الأقل في قشتمر، وقال لنا بوضوح: غاية الإنسان من كل سعي أن يبلغ الحياة التي أستمتع بها اليوم.
وقال طاهر عبيد: عرف صديقنا ما يناسبه.
فقال صادق بارتياب: انتظر، قد ينقلب كل شيء رأسا على عقب!
وها هو إسماعيل قدري يمارس حياته وكأنما قد استنام إليها بصورة نهائية، موظف صغير أبدي، في بيت محدود الرزق بلا مستقبل، رأسه يتضخم بالاطلاع والتفكير، وقلبه قلق بالشك الذي اجتاحه، ومسراته الحسية متدنية وتعيسة، لماذا لا يلقى الصعاب بالتحدي المناسب لقدراته؟ لماذا لا يحاول الكتابة؟ لماذا لا يدرس القانون من الخارج؟ لماذا يستسلم للهزيمة؟ وأين تلاشت همته العالية؟! وكأنه لم يبق له من المتع الطيبة الدنيوية إلا أكلة فاخرة وكأسان من الويسكي في العوامة أو خان الخليلي. ولكنه لم يفقد يقظته العقلية المتألقة. ولما جاء حمادة ببعض الخواجات يستعين بهم على تذوق الفن التشكيلي والموسيقى الغربية تجلى إسماعيل على رأس المتذوقين، وربما فتر حماس حمادة أحيانا، أما حماسه هو فقد استمر. واهتمامه مع ذلك بالفن والأدب والفلسفة لا يقاس باهتمامه بالسياسة ورؤاها، وفي ذلك الميدان يعد معلمنا الأول، ووضح ميله للديمقراطية، وإن قال بإيمان: لا ديمقراطية بلا عدالة اجتماعية.
ويظل في ظاهره على الأقل موظفا صغيرا، يثابر على استعارة الكتب، والتعلق بالوفد، والسمر في قشتمر، ومعاشرة الأسى وهو ما لا يلاحظه إلا من يستشف أعماق عينيه.
طاهر عبيد - رغم منفاه الاختياري - أسعدنا فيما يبدو. بحسبه أن شعره يعتبر اليوم أجمل ما ينشر من شعر، أو في الأقل أجمل ما ينشر من شعر في مجلة الفكر ذائعة الصيت. وها نحن نلمح رئيفة في ذهابها وإيابها مرتدية فساتينها الفضفاضة لتداري حبلها. وفي الوقت المناسب أنجبت للشاعر درية. وثمل طاهر بالأبوة كما ثمل بها صادق من قبل، وتساءلنا: ترى هل علم عبيد باشا الأرملاوي وإنصاف هانم القللي بمقدم حفيدتهما؟ الواقع يقطع بأن صديقنا قد انفصل عن أسرته إلى الأبد، ووجه الباشا المتعجرف لا يعد بأي أمل في التراجع، والهانم لا تقل عنه ترفعا واغترابا، ولم يتصور أحدنا أن تقف الهانم موقف الند من أم رئيفة العجوز، والمسألة تبدو حلما من الأحلام أو الأسطورة نسجها قلب شاعر متمرد عذب. يسأله حمادة أحيانا متذكرا حبه القديم لوالديه: ألا تحن أحيانا إلى بين السرايات؟
فيتفكر مليا ثم يقول مداريا أشجانه بالابتسام: اهجر من يهجرك.
صفحة غير معروفة