أما هذا فدخن بالنارجيلة تباعا وهو لا يرشد، ثم عاد فأخذ بيدي الصبي وقال بصوت مستكين، هل مضى على أنيسة زمن وهي مقيمة عندكم؟ فجاءت المرأة بمغزلها ودنت من المسافر، كأنها تتهيأ للحديث فجلست وأجابت: إني أخبرك يا سيدي كيف انتقلت إلينا أنيسة، يجب أن تعلم أنه بعد موت حسون الشيخ وامرأته تقاسم أولادهما التركة، ولم تكن أنيسة ترضى بأن تتزوج وأنت أدرى بسبب امتناعها، فتخلت عن حصتها لأخيها على شرط أنها تقضي عمرها في بيته، ثم أخذت تشتغل بالخياطة وكانت تجمع كميات من الدراهم وافرة توزعها كلها على سبيل الإحسان.
وكانت تعود المرضى وتستدعي لهم الطبيب على نفقتها إن كانوا من أهل الفاقة، وكان كلامها العذب يعزي الحزين، ويدها البيضاء تنعش قلب البائس، فيوما من الأيام - ولم يك قد مضى على زواجنا إلا ستة أشهر - عاد زوجي إلى البيت يشكو مرضا عضالا سبب له من ذاك الحين هذا السعال الذي تسمعه، ولولا رحمة الله وشهامة أنيسة، لكان زوجي يوسف في عداد الأموات، آه يا سيدي لو كنت تعلم ما بذلت أنيسة في سبيلنا مجردا لوجه الله، فإنها جاءتنا بأغطية صوف وكان وقتئذ فصل الشتاء ونحن فقراء، واستدعت طبيبا من سوق الغرب؛ ليفحص مرض زوجي وأخذت تسهر عليه هي بعينها فتخفف آلامه وتؤنسني بكلامها الرقيق، فما أحن قلبها وأشرف نفسها! فكنت تراها لا تهتم بشأنها، بل توجه أعمالها لخدمة الغير كأنها ما دخلت الدنيا إلا لأجل القريب، وما أتعس ما كانت حالتنا لولا هذا الملاك، فهي دفعت عنا ثمن الأدوية وكانت تمدنا بالدراهم.
وكانت محبوبة من الجميع، وحينما كانت تدخل بيوت الأغنياء تطلب منهم المساعدة لفقرائها، لم يكن أحد يطاوعه قلبه أن يمنع عنها العطاء، وبقي يوسف مريضا مدة شهر ونصف وأنيسة تساعدنا، حتى تمكن زوجي من معاودة أشغاله.
فقال المسافر متنهدا: لا شك أن حبكما عظيم للضريرة.
فرفع الحائك رأسه وكانت الدموع تتلألأ في عينيه فصاح بلهجة التأثر الشديد: لو كان دمي يعيد إليها بصرها، لتركته يسيل حتى آخر قطرة.
فأخذ هذا الكلام من حنا غنطوس كل مأخذ، وفعل فيه ما لا يوصف، حتى فطنت المرأة إلى حالته فأومأت إلى رجلها أن يلزم السكوت وعادت إلى سياق حديثها فقالت: وبعد ثلاثة أشهر رزقنا الله صبيا، وهو الذي بين يديك، ويوم عماده توسلت إلينا أنيسة بأن نسميه حنا، أما سلفي فطلب أن ندعوه بطرس باسمه، وسلفي رجل طيب القلب لكنه عنيد، فبعد الأخذ والرد تقرر أن نسمي ولدنا حنا بطرس، فنحن نناديه باسم بطرس إكراما لسلفي، أما أنيسة فلا تدعوه إلا حنا، وهو مثل الحمل حفظته السيدة، وقد تعود الاسمين، ويعلم أنه يدعى حنا باسمك أنت يا سيدي ...
فضم المسافر الصبي على صدره وقبله مرارا، ثم أخذ يتأمله ولم ينطق ببنت شفة، وكان فؤاده يطفح سرورا، فنسي حينئذ الخمس والعشرين سنة التي قضاها في الغربة لا يرى صديقا ولا نسيبا ولا أنيسا، نسي ما قاساه من الأتعاب، وما تجشمه من الأخطار، فكفاه حظا أنه عاد ما بين قوم يعرفونه وينظرون إليه نظر الوداد؛ ولسعادة حظه قد وجد أن أنيسة لم تزل حية، فكان لقلبه هذا الفكر أشبه بوابل المطر على الرمال المحرقة يردده في جنانه: أنيسة لم تزل حية قريبة منه وعما قليل يراها ويضمها بين ذراعيه ... فضم الصبي وقبله ثانية لا يعي، والصغير ينظر إليه جذلا مسرورا.
7
وكانت الأم تتأمل في هذا المشهد، وقد عرا قلبها اهتزاز طرب لا يوصف، ثم عادت إلى حديثها فقالت: وكان أخو أنيسة اتفق مع أحد تجار بيروت على مشترى فيالج «شرناق» هذه النواحي كلها، وكان الناس يزعمون أن هذا الشراء يغنيه كثيرا، وفي واقع الأمر ربح في البداءة أرباحا طائلة، ولكن لم تمض عليه أيام إلا أفلس التاجر، وكان أخو أنيسة قد كفل كل الغرماء، فدفع لهم جميع أمواله وباع ما عنده، ولم يف بذلك نصف ديونه، وما لبث أن مات من الغم والقهر، الله يرحمه ... وحينئذ عرض فارس عبود على أنيسة أن تسكن معه في بيت أبيه ...
فقطع المسافر كلامها، وسأل باغتا: وما فعلت أنيسة؟ - لم تتردد عن الجواب بالرفض، وقد عرفنا فيما بعد سبب رفضها، ولما كانت رقيقة القلب تلاطف الجميع، كان فارس عبود يسعى في مكالمتها، فكانت تجيبه بحشمة وأدب وتمر في طريقها، ومع أنها فقيرة خطبها كثيرون من الشبان من أحسن عيال الضيعة، ولكنها أبت أن تجيب هذا الطلب.
صفحة غير معروفة