وحتى تتضح المسألة ويفهم رد الإمام يحيى بن حمزة لابد لنا من الإيضاح وإزالة الالتباس فنقول : إن ما أورده القائلون بأزلية كلام الله أعلاه ليس دليلا على قدم وأزلية كلام الله وبالتالي القرآن ، وإنما هو في الحقيقة اعتراض وشبهه لا وجه لها سوى خلفية قياس الغائب بالشاهد ، أي قياس الخالق تبارك وتعالى بنا نحن المخلوقين في صفة التكلم ، وتصورها في الأذهان بالنسبة لله تعالى من خلال ما ندركه في أنفسنا بخصوصها ، من صدور الكلام عنا مباشرة ، وكذلك صدور الصوت المؤدى به بالطبع ، ويغيب عن ذهن الكثيرين - لاسيما العامة - أن ذلك إنما يتم نتيجة وجود الآله أو الجارحة التي خلقها الله فينا وأقدرنا بها على إحداث الكلام وفعله ، ولو تلفت أو تعرضت لآفة ما ، لفقدنا القدرة على الكلام ، ولعجزنا ولا ريب عن إحداثه وخلقه في محل آخر غير ذواتنا بعد تلف تلك الآله المركبة فيها ، وهذا ما يتفرد به الله عز وجل ، ومع ذلك فإن التصور الغالب في أذهان الناس - وأغلبهم بدون وعي - أن الكلام يصدر من الله مباشرة أي بحروف وأصوات ( حالة فيه وقائمة بذاته ) كما يخرج من أحدنا !! وأنه لابد وأن يكون متكلما على هذا النحو ، متوهمين أن ذلك من لوازم كماله الإلهي المطلق كما هو - مع الفارق طبعا - من لوازم الكمال الإنساني المتمثل في النطق الذي بلغ من شأنه أن تم تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق ، دون أن يستوعبوا ويدركوا بأن خصوصية اتصافه تعالى بصفة المتكلمية ووجه كماله الإلهي فيها وحقيقة مباينته في هذه الصفة لعباده - كما هو الحال في سائر صفاته تعالى - إنما تكمن في كونه يخلق الكلام خلقا كيف شاء ومتى شاء ويحدثه أينما شاء ، لا أنه قائم بذاته ، ولاصادر عنه مباشرة بصوت مسموع كما هو الحال بالنسبة لنا ، وكونه تعالى يخلق الكلام ويحدثه في غيره ( أي قائم بغيره ) فذلك هو قطعا ما ليس مقدورأ للبشر على الإطلاق ، وهو ما يجسد حقيقة مباينته لعباده في ذلك وتفرده ، ويتجلى فيه بوضوح مدى عظمته وقدرته المطلقة علما بأن الأصل والأساس في القول بأن الكلام قائم بغيره ليس هو ما ذكرنا وإنما هو - كما شرحناه في الحلقات السابقة - ما فرضه العلم الضروري بحدوث الحروف والأصوات التي يتركب منها الكلام ، من لزوم الحكم باستحالة أن يكون الكلام قائما بذاته تعالى ، لاستحالة أن يكون ذاته محلا للحوادث باتفاق الجميع ، وبالتالي ما أوجبه مبدأ التنزية من تنزيه الله عن ذلك ، وهذا بطبيعة الحال كان يعني بالضرورة أن كلامه تعالى قائم بغيره ، باعتبار أن الكلام يستحيل أن يقوم بنفسه وأن يوجد لا في محل ، دون أن يكون هذا الغير ( وهو من مخلوقات الله بالطبع ) سوى محل للكلام الذي يحدثه الله فيه ، وبعبارة أخرى محل للحروف والأصوات التي يخلقها الله فيه ليتمكن من يكلمه الله من عباده ( كما حدث لموسى عليه السلام ) من سماع الكلام ، وليس هو المتكلم الذي هو فاعل الكلام وهو الله والكلام بالطبع كلامه لأنه فاعله ومحدثة ، ومثال ذلك بالنسبة لكلامنا نحن البشر ، من حيث محل الكلام أو كما يسميه الإمام أحمد بن سليمان شبح الكلام أي المحل ، ما قاله في كتابه " حقائق المعرفة " من أن : ( شبحه - أي الكلام - في المتكلم ، وشبحه بعد ذلك الهواء لأن الله قد فطر الهواء على حمل الأصوات إلى الآذان السامعات ) . ( 3 ) .
وهذه حقيقة علمية ثابتة ندركها نحن أبناء هذا العصر ونستوعبها جيدا ، وكون الهواء هو محل الكلام بعد ذلك ويقوم الكلام به ، وهو الذي يحمله إلينا وينقله إلى آذاننا ونسمعه بواسطته لا يعني أن الكلام كلامه أو أن اختصاصه به أولى ، وما من أحد يقول ذلك ، لأن الكلام لفاعله أي المتكلم والهواء ليس هو المتكلم ولا فاعل الكلام كما هو معلوم وإنما هو محل لا أكثر .
....
صفحة ٥١