إن القينة لا تكاد تخالص في عشقها، ولا تناصح في ودها؛ لأنها مكتسبة ومجبولة على نصب الحبالة والشرك للمتربطين، ليقتحموا في أنشوطتها، فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللحظ، وداعبته بالتبسم، وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشرب عند شربه، وأظهرت الشوق إلى طول مكثه، والصبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحست بأن سحرها قد نفذ فيه، وأنه قد تعقل في الشرك، تزيدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أن الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم له أنها مدت الدواة بدمعتها، وبلت السحاءة بريقها، وأنه شجبها وشجوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحدا على هواه، ولا تنوي انحرافا عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه؛ ثم جعلت الكتاب في سدس طومار، وختمته بزعفران، وشدته بقطعة زير، وأظهرت ستره عن مواليها، ليكون المغرور أوثق بها. وألحت في اقتضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادعت أنها قد صيرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت:
وصحيفة تحكي الضمي
ر مليحة نغماتها
جاءت وقد قرح الفؤا
د لطول ما استبطاتها
فضحكت حين رأيتها
وبكيت حين قراتها
عيني رأت ما أنكرت
فتبادرت عبراتها
أظلوم، نفسي في يدي
ك: حياتها ووفاتها
صفحة ١٧٢