قيام رمضان - ضمن «آثار المعلمي»
محقق
محمد عزير شمس
الناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٤ هـ
تصانيف
الرسالة الثانية عشرة
قيام رمضان
16 / 379
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قيام رمضان
وردت عدة نصوص في الترغيب في القيام مطلقًا، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: ٦٤]، وغيرها. ونصوصٌ تؤكّد قيام رمضان، وخاصةً ليلةَ القدر، كحديث "الصحيحين" (^١): "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه". وفي حديث آخر (^٢): "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه".
وثبتت نصوص أخرى تبيِّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عَظُم أجرُه، وكبُر فضلُه، وإن خلا عن بعضها أو عنها كلّها لم يمنع ذلك من حصول أصل قيام الليل. فلنسمِّها "مكمِّلات"، وهي:
١ ــ أن يكون تهجّدًا، أي بعد النوم.
ومن أدلّة ذلك حديث "الصحيحين" (^٣) وغيرهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وفيه: "وأحبُّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثُلثَه وينام سُدسَه".
وفي "صحيح مسلم" (^٤) عن جابر مرفوعًا: "من خاف أن لا يقوم من
_________
(^١) البخاري (٣٧) ومسلم (٧٥٩) من حديث أبي هريرة.
(^٢) أخرجه البخاري (١٩٠١) ومسلم (٧٦٠) من حديث أبي هريرة.
(^٣) البخاري (١١٣١) ومسلم (١١٥٩/ ١٨٩).
(^٤) رقم (٧٥٥).
16 / 381
آخر الليل فليُوتِرْ أوّلَه، ثم ليرقُدْ، ومن طَمِعَ أن يقوم من آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودةٌ محضورةٌ، وذلك أفضل".
٢ ــ أن يكون بعد نصف الليل.
ومن أدلّته ما تقدم.
٣ ــ أن يستغرق ثلث الليل.
ومن أدلّته: حديث عبد الله بن عمرو المتقدم.
وقد قال الله ﷿ في آخر سورة المزمل: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠]. يريد به: ما تيسَّر من قيام الليل.
٤ ــ أن يُكثِر فيه من قراءة القرآن. وهو مِن لازم الثالث؛ لما عُرِف من نظام الصلاة.
٥ ــ أن يكون مثنى مثنى، ثم يوتر بركعة.
هذا هو الأكثر من فعل النبي ﷺ، وبه أمر مَن سأله عن قيام الليل.
وقد ثبت عنه ﷺ صُوَرٌ أخرى، منها: مثنى مثنى ويوتر بثلاث.
٦ ــ أن لا يزيد عن إحدى عشرة ركعة.
كما ثبت من حديث عائشة في "الصحيحين" (^١) وغيرهما، قالت: "ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضانَ ولا غيرِه على إحدى عشرة ركعةً ... ". أجابت بهذا مَنْ سألها عن صلاة النبي ﷺ في الليل في رمضان. وذلك
_________
(^١) البخاري (١١٤٧، ٢٠١٣) ومسلم (٧٣٨).
16 / 382
صريح في أن المشروع في قيام رمضان هو المشروع في غيره، إلَّا أنه آكدُ (^١) فيه.
وقد جاء عنها أنه صلَّى في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة (^٢).
وفي "المستدرك" وغيره (^٣) عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تَشبَّهوا بالمغرب، ولكنْ أوتروا بخمسِ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك".
والمراد ــ والله أعلم ــ بالوتر في هذا الحديث: قيام الليل، كأنه كره الاقتصار على ثلاثٍ وأمرَ بالزيادة عليها. وأكثرُ ما جمع النبي ﷺ بينه بتكبيرةٍ واحدةٍ تسع ركعات. فهو ــ والله أعلم ــ أكثر الوتر الحقيقي، فأمَّا الوتر بمعنى قيام الليل المشتمل على الوتر فلا مانعَ من الزيادة فيه، والأفضلُ ما تقدّم.
٧ ــ أن يكون فُرادى. كما هو الغالب من فعل النبي ﷺ وأصحابه، وهو كاللازم للأمر الآتي.
_________
(^١) في النسخة اليمنية: "يتأكد".
(^٢) أخرجه البخاري (١١٧٠) ومسلم (٧٣٧).
(^٣) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (١/ ٣٠٤) والبيهقي في "السنن الكبرى" (٣/ ٣١، ٣٢) من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن أبي هريرة. وإسناده صحيح. وأخرجه بنحوه ابنُ حبان (٢٤٢٩) والدارقطني (٢/ ٢٤، ٢٥) والحاكم (١/ ٣٠٤) والبيهقي (٣/ ٣١) من طريق سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة. وصححه الحاكم.
16 / 383
ومع ذلك، فقد ثبت عن ابن مسعود اقتداؤه بالنبي ﷺ في بعض قيام الليل. وكذلك عن [ص ٢] ابن عباسٍ لمّا بات في بيت النبي ﷺ . وسيأتي ما يشهد لذلك.
٨ ــ أن يكون في البيت.
ومن أدلته: حديث "الصحيحين" (^١) وغيرهما عن زيد بن ثابت قال: "احتجرَ رسول الله ﷺ حُجَيرةً بخَصَفةٍ أو حصيرٍ، فخرج رسول الله ﷺ يصلّي فيها، قال: فتتبَّع إليه رجالٌ وجاءوا يُصلُّون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلةً فحضروا، وأبطأ رسول الله ﷺ عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب، فخرج إليهم رسول الله ﷺ مُغضَبًا، فقال لهم رسول الله ﷺ: "ما زال بكم صنيعُكم حتى ظننتُ أنه سيُكْتَب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".
هذا لفظ مسلمٍ في الصلاة، باب "استحباب صلاة النافلة في البيت"، ونحوه للبخاري في "صحيحه"، في كتاب الأدب، "باب ما يجوز من الغضب".
والحديث وارد في قيام رمضان كما يأتي، وذلك قاضٍ بشمول الحكم له نصًّا، فلا يُقبَل أن يُخرَج منه بتخصيص (^٢).
_________
(^١) البخاري (٦١١٣) ومسلم (٧٨١).
(^٢) أتعجّب مما وقع في "فتح الباري" في باب التراويح: "وعن مالك ... وأبي يوسف وبعض الشافعية: الصلاةُ في البيوت أفضل، عملًا بعموم قوله ﷺ: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة" [المؤلف].
راجع "الفتح" (٤/ ٢٥٢)، والصواب أنه متفق عليه من حديث زيد بن ثابت، كما ذكره المؤلف.
16 / 384
وذكر مسلم رواية أخرى (^١) قال في متنها: "إن النبي ﷺ اتخذ حُجْرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى رسول الله ﷺ فيها لياليَ حتى اجتمع إليه ناسٌ، فذكر نحوه وزاد فيه: "ولو كُتِبَ عليكم ما قمتم به".
وهذه الرواية في "صحيح البخاري" (^٢) في كتاب الاعتصام، "باب ما يُكْره من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]، وفيها بعد قوله: "ليالي": "حتى اجتمع إليه ناسٌ، ففقدوا صوتَه ليلةً، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكْتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
وفي رواية للبخاري (^٣) في كتاب الصلاة، في "باب صلاة الليل" قُبيلَ "أبواب صفة الصلاة": "أن رسول الله ﷺ اتخذ حجرةً ــ قال: حسبتُ أنه قال: من حصيرٍ ــ في رمضان، فصلَّى فيها لياليَ، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد ... ".
علَّل أمرهم بالصلاة في البيوت بأنها في غير المكتوبة خير وأفضل،
_________
(^١) رقم (٧٨١/ ٢١٤)
(^٢) رقم (٧٢٩٠).
(^٣) رقم (٧٣١).
16 / 385
فثبت أنه إنما أمرَهم أمرَ إرشادٍ لتحصيل زيادة الفضل، وأن الصلاة في المسجد فيها خيرٌ في الجملة وفضلٌ، وذلك شامل لقيام رمضان.
والظاهر أنه ﷺ كان تلك الليالي معتكفًا، والمسجد بيت المعتكف، فلا يكون في صلاته فيه ما ينافي منطوق الحديث.
وكأنه كان يقتدي به أولًا المعتكفون، ومَنْ في معناهم من أهل الصُّفَّة الذين لا بيتَ لهم إلَّا المسجد، فلم ينكر عليهم. ثم حضر غيرهُم، ولم يشعُرْ ﷺ، فلمَّا شَعَرَ قعد.
وما يقع في بعض روايات حديث عائشة ممّا قد خالف ما هنا: الظاهرُ أنه من تصرُّفِ بعض الرواة، من باب الرواية بالمعنى على حسب ما فهم، والله أعلم.
مقارنة بين حديث زيدٍ وحديث عائشة
قد وردت القصة من حديث عائشة، ولكن في حديث زيدٍ زيادتان:
الأولى: ما فيه مِنْ ذكر [ص ٣] تنحنُحِ القوم، ورفْعِهم أصواتَهم، وحَصْبِهم البابَ، وغضَبِ النبي ﷺ.
الثانية: ما فيه مرفوعًا: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
والزيادة الأولى تُفْهِم أن صنيعهم ذاك هو الذي خشي النبي ﷺ أن يُعاقَبوا عليه بفرضِ قيام الليل في المسجد عليهم.
وأشار إلى ذلك البخاريُّ؛ إذ ذكر الحديث في كتاب الاعتصام "باب ما
16 / 386
يُكْرَه من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾، وذكر معه حديث: "إنَّ أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجْلِ مسألته" (^١).
والزيادة الثانية تُفْهِم أن سبب احتباس النبي ﷺ عنهم هو إرادة صَرْفِهم إلى الصلاة في بيوتهم؛ لأنها أفضل.
ولو خلا الحديث عن هاتين الزيادتين لكان ظاهره أن الصنيع الذي خشي أن يترتَّبَ عليه الفرض هو مثابرة القوم على الحضور، وأن سبب احتباس النبي ﷺ هو إرادة قطع المثابرة قبل أن يترتّب عليها الفرض.
والظاهر أن خلوَّ حديث عائشة عن هاتين الزيادتين سببه أنها كانت في بيتها إذْ كان زيدٌ في المسجد شريكًا في القصة، وأن ذلك أدّى إلى هذا الفهم على ما فيه، ففي "الصحيحين" (^٢) من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، قالت: "إن كان رسول الله ﷺ لَيدَعُ العملَ وهو يُحِبُّ أن يعملَ به، خشيةَ أن يعملَ به الناس فيُفْرَضَ عليهم".
لا أرى مأخذ هذا المعنى إلّا ما فُهِم من تلك القصة، بسبب خلوِّها عن تَيْنِكَ الزيادتين.
قد يقال: إنّ هذا وإن استقام بالنظر إلى بعض روايات حديث عائشة، فلا يستقيم بالنظر إلى بعضها.
_________
(^١) البخاري (٧٢٨٩) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(^٢) البخاري (١١٢٨) ومسلم (٧١٨).
16 / 387
فأمّا الأول: فرواية عمرة عن عائشة، وأكثر الروايات عن أبي سلمة عن عائشة.
ولفظ البخاري (^١) عن عمرة: "كان رسول الله ﷺ يُصلِّي من الليل في حُجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناسُ شخصَ النبي ﷺ، فقام ناسٌ يصلُّون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلةَ الثانية (^٢)، فقام معه ناس يصلُّون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله ﷺ فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال: "إني خَشِيتُ أن تُكتَبَ عليكم صلاةُ الليل".
ذكره البخاري قبل أبواب صفة الصلاة، في "باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة". ثم قال بعده: "باب صلاة الليل"، فأخرج (^٣) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة: "أن النبي ﷺ كان له حصيرٌ يَبْسُطه بالنهار، ويَحتجِرُه بالليل، فثاب إليه ناسٌ فصلَّوا وراءه". [ص ٤] كذا أخرجه مختصرًا.
وقد أخرجه مسلم (^٤)، ولفظه: "كان لرسول الله ﷺ حصيرٌ، وكان يُحَجِّرُه من الليل، فيصلّي فيه، فجعل الناس يصلّون بصلاته، وَيْبسُطُه بالنهار. فثابوا ذاتَ ليلةٍ، فقال: "يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تُطِيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمالِ إلى الله ما دُووِمَ عليه
_________
(^١) رقم (٧٢٩).
(^٢) كذا الرواية عند الأكثر، وانظر توجيهها في "الفتح" (٢/ ٢١٤).
(^٣) رقم (٧٣٠).
(^٤) رقم (٧٨٢).
16 / 388
وإنْ قَلّ". وكان آل محمد ﷺ إذا عملوا عملًا أثبتوه".
وفي "فتح الباري" (^١) في "باب تحريض النبي ﷺ على قيام الليل" ما لفظه: "في رواية أبي سلمة المذكورة قبيل صفة الصلاة: "خشيتُ أن تُكْتَب عليكم صلاة الليل".
كذا قال، وتبعه العينيّ (^٢)! وإنما هذا في رواية عمرة، كما مرّ.
وأمّا الثاني: فما في "الصحيحين" (^٣) وغيرهما من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن رسول الله ﷺ صلَّى ذاتَ ليلة في المسجد، فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة ــ أو الرابعة ــ فلم يخرج إليهم رسول الله ﷺ . فلما أصبح قال: "قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيتُ أن تُفْرَضَ عليكم" وذلك في رمضان".
ففي هذه الرواية جاء هذا التعليل من لفظ النبي ﷺ، فكيف يستقيم أن يقال: إنه إنما فُهِم من حديث عائشة لخلوِّه عن الزيادتين الثابتتين في حديث زيد؟ !
أقول: في "فتح الباري" (^٤) في الكلام على رواية عروة: "ظاهر هذا الحديث أنه ﷺ توقَّعَ ترتُّبَ افتراضِ الصلاة بالليل جماعةً على وجود
_________
(^١) (٣/ ١٣).
(^٢) في "عمدة القاري" (٧/ ١٧٧).
(^٣) البخاري (١١٢٩) ومسلم (٧٦١).
(^٤) (٣/ ١٣).
16 / 389
المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال ... ".
[ص ٥] وحاصِلُ الإشكال موضَّحًا: أن الصحابة ﵃ كانوا قد عرفوا فضل قيام رمضان، ولم يكونوا يعلمون أنه في البيوت أفضل، فلمّا سمعوا أن النبي ﷺ خرج يصلِّيه (^١) في مسجده، ويأتمُّ به مَنْ حضر؛ ظنّوا معذورين أن حضورهم للصلاة مع النبي ﷺ في المسجد أفضل، والمداومةُ التي كانت قد وقعت منهم قبل أن يذكر النبي ﷺ قصةَ الفرض= كان الظاهر أن النبي ﷺ أقرّهم عليها، فتأكّد العذر، ولو كان العمل مشروعًا ولم يقطعه النبي ﷺ لكان عملًا كلّه خير.
والفرضُ الذي خشيه النبي ﷺ (^٢) كان عقوبةً، بدليل قوله: "ولو كُتِب عليكم ما قمتم به".
وقد فهم البخاري ذلك، فأخرج الحديث في باب ما يُكرَه من السؤال (^٣)، وذكر معه آية: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾، وحديث: "إن أعظمَ المسلمين جرمًا مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته". وقد قال الله ﷿: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٠ ــ ١٦١]. فكيف تكون المداومة على عملٍ
_________
(^١) في النسخة اليمنية: "يصلي".
(^٢) هنا كلمتان بين السطرين لم أستطع قراءتهما، وليس هناك إشارة لحق، والكلام متصل بدونهما.
(^٣) "الصحيح" مع الفتح (١٣/ ٢٦٤).
16 / 390
مشروعٍ فاضلٍ سببًا لمثل هذا الفرض؟
وقد أجيب عن هذا الإشكال أجوبة لا تُسْمِن ولا تُغنِي من جوع، وفيه إشكال آخر، بناءً على فرضِ أن أصل ذلك العمل مشروع، وإنما تركه النبي ﷺ لمانعٍ، وهو الخشية؛ فإنه لو صحَّ هذا لكان على الخلفاء الراشدين أن يعملوا بهذا عند زوال المانع بوفاته ﷺ، فيؤمُّوا الناسَ في قيام رمضان في المساجد. فلماذا تركوه؟
أجاب بعضهم: أن الصحابة كانوا في زمن أبي بكر مشغولين بحروب الردّة، ولهذا لمّا استقرّ الأمر عمل به عمر.
وفي هذا أوّلًا: أنّ تضايق المدينة في قصة الردّة لم يَطُلْ، وبقي أبو بكر بعد ذلك مدةً متمكِّنًا كلَّ التمكُّن من القيام بالناس في المسجد لو أراد، وأن عمر لم يَقُم بالناس في المسجد قطّ، وإنّما أمر بما أمر به في آخر خلافته، فإنه استُشهِد آخرَ سنة ٢٣.
وقد روى عبد الرحمن بن عبد القاريُّ القصةَ كما في "صحيح البخاري" (^١) أنه شهدها، وفي القصة ما يقتضي أن يكون عبد الرحمن حينئذٍ من أصحاب عمر، يدخل بدخوله ويخرج بخروجه، مع أن عُمره لوفاة عمر كان تقريبًا عشرين سنة، وعلى ما رجحه ابن حجر في "الإصابة" (^٢) أربع عشرة سنة.
ورواها أيضًا روايةً واعيةً نوفلُ بن إياس الهذلي كما يأتي، مع أنهم لم يذكروه فيمن وُلِد في العهد النبوي، فعُمْرُه لوفاة عمر نحو ثلاث عشرة سنة.
_________
(^١) رقم (٢٠١٠).
(^٢) (٨/ ٦٢) حيث رجَّح أنه وُلد في آخر عُمْر النبي ﷺ .
16 / 391
فهذا ممّا يدلُّك أنّ ما وقع من عمر ﵁ من جَمْعِهم على أُبي بن كعب إنما كان في آخر خلافته. وهذا كلُّه يُثبِت أن الصواب ما دلَّ عليه حديث زيد.
فأمّا ما في رواية عروة [ص ٤] فقد فتح الله عليّ بجوابين:
الأول: أن يقال: إن هذا اللفظ الذي وقع في رواية عروة منسوبًا إلى النبي ﷺ ليس هو عين اللفظ النبوي، بل قد يكون اللفظ النبوي هو الذي وقع في حديث زيد أو في رواية عمرة. فأما ما في رواية عروة فتصرَّف فيه الراوي على وجه الرواية بالمعنى، على حسب فهمه.
الجواب الثاني: أنه على فرض أن ما وقع في رواية عروة هو عين لفظ النبي ﷺ؛ فالتوفيق بينه وبين حديث زيد ــ مع تجنُّب الإشكالين ــ متيسِّر بحمد الله، بأن يقال: إنه ﷺ احتبس عنهم أوّلًا؛ ليصرِفَهم إلى الصلاة في البيوت، لمزيد فضلها، كما في حديث زيد، ثم كأنهم لمّا صنعوا ما صنعوا من التنحنُح ورفْع الأصوات وحَصْب الباب هَمَّ النبيُّ ﷺ أن يستجيب لإلحاحهم، فيخرج فيصلِّي بهم، لكنه خشي أن يكون في ذلك ما يؤكّد شناعةَ صنيعهم؛ لأنه يثبت بذلك [ص ٦] أنهم اضطروا النبيَّ ﷺ إلى فعل ما يكرهه، ولعلّ هذا يوجب أن يُعاقَبوا بأن يُفرض عليهم ذلك العمل. فلم يخشَ ترتُّبَ الفرض على المواظبة، بل على إلحاحهم إذا تأكّدت شناعتُه باستجابته لهم. فتدبَّرْ.
ولم أرَ مَنْ نحا هذا المنحى مع ظهوره، ومع استشكالهم ظاهرَ ما وقع في رواية عروة. فكأنهم احتاجوا إلى المحافظة على ظاهر ما في رواية عروة
16 / 392
ليدفعوا أن يكون ما أمر به عمر بدعةً، كما يدلُّ عليه قول كثيرٍ منهم: إنما ترك النبي ﷺ الاستمرار على إقامتها جماعةً في المسجد لمانعٍ، وهو خشية أن تُفْرضَ، وبموته ﷺ زال هذا المانع.
وإذا ثبت أن الحكم مشروعٌ، وتُرِك في عهد النبي ﷺ لمانعٍ؛ فإنه إذا زال المانع بعده لم يكن العمل بذلك الحكم بدعة.
وستعلم قريبًا ــ إن شاء الله تعالى ــ ما يغني عنه في دفع البدعة.
وقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (^١) رواية أبي سلمة من طرقٍ، ثم أخرج (^٢) من طريق ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: كان الناسُ يصلّون في مسجد رسول الله ﷺ في رمضان بالليل أوزاعًا، يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفرُ الخمسةُ أو الستة، أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، فيصلُّون بصلاته. قالت: فأمرني رسول الله ﷺ ليلةً من ذلك أن أَنصِبَ له حصيرًا على باب حجرتي، ففعلتُ، فخرج إليه رسول الله ﷺ بعد أن صلَّى العشاء الآخرة. قالت: فاجتمع إليه مَن في المسجد، فصلَّى بهم ... فقال: "أيّها الناس! أما والله ما بِتُّ ــ والحمد لله ــ ليلتي هذه غافلًا، وما خفي عليّ مكانكم، ولكني تخوَّفْتُ أن يُفتَرض عليكم، فاكْلَفُوا من الأعمال ما تُطِيقون ... ".
في النفس شيء من هذه الرواية؛ قصةُ الأوزاع لم أجدها في شيء من
_________
(^١) (٦/ ٦١، ٢٤١، ٣٦، ٧٣، ١٠٤).
(^٢) (٦/ ٢٦٧).
16 / 393
الروايات الأخرى، وإنَّما المحفوظ أن ذلك كان في عهد عمر، كما في "الموطأ" (^١) وغيره عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه قال: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب ﵁ ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يُصلّي الرجل لنفسه، ويُصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهْطُ".
وبقيةُ الكلام في رواية ابن إسحاق، كأنه ضمَّ رواية عروة إلى رواية أبي سلمة، مع زيادة تطويل.
وابن إسحاق صدوق، وثَّقه جماعة (^٢)، وأثنى عليه الإمام أحمد وغيرُه، لكنْ قال أيوب بن إسحاق بن سافري ــ وهو صدوق ــ: سألت أحمد، فقلت له: يا أبا عبد الله! إذا انفرد ابن إسحاق بحديثٍ تقبله؟ قال: "لا والله؛ إني رأيته يُحدِّث عن جماعةٍ بالحديث الواحد، ولا يَفصِل كلامَ ذا من كلامِ ذا".
وقد تابعه محمد بن عمرو بن علقمة (^٣) في "سنن أبي داود" (^٤)، ولكنه مختصر.
ومحمد بن إبراهيم التيمي: وثَّقه جماعةٌ، واحتجَّ به الشيخان وغيرهما،
_________
(^١) "الموطأ" (١/ ١١٤) والبخاري (٢٠١٠).
(^٢) انظر "تهذيب التهذيب" (٩/ ٣٩ وما بعدها) وفيه قول الإمام أحمد المذكور (٩/ ٤٣).
(^٣) كانت غير واضحة في الأصل، فوضع المصنف بجوارها علامة، وكتب في الحاشية: "بيانه: محمد بن عمرو بن علقمة".
(^٤) رقم (١٣٧٤).
16 / 394
وقال الإمام أحمد: "في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو منكرة" (^١).
والخطبُ سهلٌ هنا، فقصةُ الأوزاع لها شواهد في الجملة، وبقيةُ الزيادة في رواية أبي سلمة إن لم تصحّ عنه فقد صحَّ أكثرها من رواية عروة.
أمّا شواهد قصة الأوزاع ففي "سنن البيهقي" (^٢) بسندٍ صحيح عن ثعلبة بن أبي مالك القُرَظي قال: "خرج رسول الله ﷺ ذاتَ ليلةٍ في رمضان، فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلّون، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ ". قال قائل: يا رسول الله، هؤلاء ناسٌ ليس معهم قرآن، وأُبي بن كعب يقرأ، وهم معه يصلّون بصلاته. قال: "قد أحسنوا، أو قد أصابوا". [ص ٧] ولم يكره ذلك لهم".
قال البيهقي: "هذا مرسل حسن، ثعلبة بن أبي مالك القرظي من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقد أخرجه ابن منده في "الصحابة"، وقيل: له رؤية، وقيل: سِنُّه سنُّ عطية القرظي، أُسِرا يوم قريظة ولم يُقْتَلا، وليست له صحبة".
وفي "الإصابة" (^٣): "لا يمتنع أن يصح سماعُه".
ثم قال البيهقي: "وقد رُوي بإسنادٍ موصول إلّا أنه ضعيف". فذكر ما رواه أبو داود في "السنن" (^٤) من طريق مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، بنحو حديث ثعلبة.
_________
(^١) "تهذيب التهذيب" (٩/ ٦).
(^٢) (ج ٢ ص ٤٩٥) [المؤلف].
(^٣) (٢/ ٧٨).
(^٤) رقم (١٣٧٧).
16 / 395
قال أبو داود: "هذا الحديث ليس بالقويّ، مسلم بن خالد ضعيف".
أقول: مسلم بن خالد ضعَّفه جماعةٌ من جهة حفظه، وقد وثَّقه ابن معين (^١).
وقد كان في عهد النبي ﷺ أهل الصّفة كانوا ملازمين المسجدَ، وكان مِنْ غيرهم مَنْ ينام في المسجد، كابن عمر، فهؤلاء كانوا يصلّون في المسجد حتمًا.
وقد عُلِم ممّا تقدم أنه ليس هناك دليلٌ يمنع الاقتداءَ في قيام الليل، بل قد ثبت اقتداء ابن مسعود بالنبي ﷺ (^٢)، وكذلك اقتداء ابن عباس (^٣). وثبت في قصة عمر أن الناس كانوا قبل ذلك يصلّون أوزاعًا في المسجد، ولم ينكر عليهم أحد صلاتهم تلك، حتى جمعهم عمر على إمام واحد.
هذا، وقد جاء من حديث أنس (^٤) وجابر (^٥) ما يوافقُ في الجملة حديثَي زيد وعائشة.
وفي "مسند أحمد" و"السنن" (^٦) من حديث أبي ذر: "صُمنا مع
_________
(^١) انظر "تهذيب التهذيب" (١٠/ ١٢٩).
(^٢) أخرجه البخاري (١١٣٥) ومسلم (٧٧٣) عن ابن مسعود.
(^٣) أخرجه البخاري (٧٢٦) ومسلم (٧٦٣) عن ابن عباس.
(^٤) أخرجه مسلم (١١٠٤).
(^٥) أخرجه ابن خزيمة (١٠٧٠) وابن حبان (٢٤٠٩، ٢٤١٥)، وفي إسناده عيسى بن جارية، وهو ضعيف.
(^٦) أخرجه أحمد (٥/ ١٦٣) وأبو داود (١٣٧٥) والترمذي (٨٠٦) والنسائي (٣/ ٨٣، ٨٤)، وابن ماجه (١٣٢٧). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
16 / 396
رسول الله ﷺ فلم يُصلِّ بنا حتى بقي سبعٌ من الشّهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في التالية (^١)، وقام في الخامسة حتى ذهب شطر الليل. فقلنا: يا رسول الله! لو نفَّلْتَنا بقيةَ ليلتنا هذه، فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِب له قيامُ ليلة". ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوَّفْنا الفلاح". قيل لأبي ذرّ: وما الفلاح؟ قال: السحور.
قد عُرِف من عادة النبي ﷺ أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويعتكف معه بعض أصحابه، فلعل المعتكفين هم الذين صلَّوا معه، وقد يكون معهم غيرهم ممّن هو في حكم المعتكف، فقد كان أهل الصّفّة لا مأوى لهم إلا المسجد.
نعم، قوله في الثالثة: "ودعا أهله ونساءه" يدلُّ على أنه يُشْرَع للإمام إذا كان معتكفًا أن يدعو أهله للقيام معه في المسجد في مثل تلك الليلة.
وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص ٩٦): "قال مالك: كان عمر بن حسين من أهل الفضل والفقه، وكان عابدًا ... وكان في رمضان إذا صلَّى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن يقومُ معهم غيرَها.
وقد يجوز أن يكون النبي ﷺ إنما دعا من خَشِيَ أن يَغفُلَ في بيته، وفي قصته لمّا أيقظ عليًّا وفاطمة ما يدفع استبعاد هذا. والله أعلم.
* * * *
_________
(^١) في الأصل: "الثالثة" سبق قلم.
16 / 397
مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي
وما صار إليه في عهد عمر
تبيَّن ممّا تقدم أن أصل قيام الليل في رمضان وغيره يحصل بمطلق الصلاة بعد العشاء وراتبتها، [ص ٨] وأن له مكمِّلاتٍ يَعظُم بها الأجرُ، ويتضاعف الفضل، وكان الغالب في العهد النبوي تمكُّن الناس من المكمِّلات ومحافظتهم عليها، وأكثر ما كان يعرض لهم ممّا يخالف ذلك هو خوف عدم الاستيقاظ بعد النوم في الوقت المتّسع، فلذلك كان كثير منهم يَدَعون المكمِّلَين الأوّلَين ــ وهما: كون القيام بعد النوم، وكونه بعد نصف الليل ــ، وربّما كان يتفق أن يوجد جماعة منهم يريدون القيام وليس معهم كثير من القرآن يحصِّلون به المكمِّل الرابع ــ وهو كثرة قراءة القرآن في القيام ــ على وجهه، فيريدون أن يعتاضوا عن القراءة بالسماع، فيلتمسون من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم في المسجد.
وبذلك يترك المأمومون والإمام المكمِّلَينِ الأخيرينِ، وهما: كون القيام فُرادَى، وكونه في البيت. أمّا المأمومون فلعدم تمكُّنِهم من ذلك، مع سماع كثير من القرآن، وأمّا الإمام فيرجو أن يكون في معونته لهم على العبادة، وما يُرجَى من انتفاعهم بسماع القرآن ما يُعوِّضه.
لكنّ هذا لم يكثر في العهد النبويّ، ولا اتصل في جميع ليالي رمضان؛ لحرص المهاجرين والأنصار على حفظ القرآن، ونشاطهم في الخير، وضعف رغبة الوافدين من الأعراب في النوافل، كقيام الليل.
فلمّا كان في عهد عمر ﵁ كثُر الواردون من الآفاق، ممن
16 / 398
ليس معهم كثير من القرآن، ولهم مع ذلك رغبة في القيام؛ لتمكُّنِهم في الإسلام، ووُجِد في شبّان أهل المدينة جماعة لا يَنْشَطون للقيام الطويل في البيوت، فكان جماعة من الفريقين يقومون في المسجد: مَنْ كان معه قرآن قام وحدَه، ومن لم يكن معهم التمسوا من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم، يرون أن لهم أسوةً بمن كانت حاله في العهد النبوي شبيهةً بحالهم. ولكثرة هؤلاء واستمرار عذرهم استمرَّ قيامهم في المسجد في جميع ليالي رمضان، ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحّة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتّفق مثلُ ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي ﷺ .
وبهذا خرج ذاك العمل المتصل عن البدعة. فإنه إذا قام الدليل على أن الحكم مشروع، وتُرِك في عهد النبي ﷺ لعدم مقتضيه، ثم وُجِد المقتضي بعده؛ فالعمل به حينئذٍ سنةٌ لا بدعة. فلمّا شاهد عمر ﵁ حالَهم عرفَ عذرَهم، وصوَّبَ اجتهادَهم، لكنه رأى أنه قد نشأ من عملهم مفاسدُ، منها: ظاهرة التفرّق والتحزُّب التي يكرهها الشرع، ومنها: تشويش بعضهم على بعض.
وفي "مسند أحمد" (^١) و"سنن أبي داود" و"المستدرك" وغيرها (^٢)، بسندٍ على شرط الصحيحين "عن أبي سعيد الخدريّ، قال: اعتكف رسول الله ﷺ في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبّةٍ له، فكشفَ
_________
(^١) ج ٣ ص ٩٤ [المؤلف].
(^٢) أخرجه أحمد (١١٨٩٦) وأبو داود (١٣٣٢) والنسائي في "الكبرى" (٨٠٩٢) وابن خزيمة (١١٦٢) والحاكم (١/ ٣١٠، ٣١١) والبيهقي في "السنن الكبرى" (٣/ ١١). وصححه الحاكم. وهو حديث صحيح.
16 / 399