إلا إذا كان القلب حجرا
والجسم طينا
فحينذاك لا فرق
بين حب قديم
وحب جديد!
هذا هو الحد الذي كان سليم قد بلغه قبل قدومي، ولعله كان يريد أن يسترسل في إنفاق عواطفه عن هذه الطريق بدلا من طريق الموسيقى، فقمت إلى البيانو وأخذت عنه ورقة السلالم الموسيقية، التي كان سليم قد سجل عليها بعض ما ابتكره من الأنغام ليضيفها إلى الأوراق الأخرى المفروغ منها تتمة للقصيدة الموسيقية، التي كان عاكفا على نظمها، وبعد أن تمعنت في الأنغام المسجلة عليها قلت: «إنك في شعرك كثير الرقة والشجو، ولكنك في موسيقاك أرق وأشجى، فإذا عدلت الآن عن نظم الموسيقى إلى إنشاء الشعر، فمن ذا يقوم بإنجاز ما بدأته؟ وماذا يكون شأن المطلب الأعلى الذي نظرنا إليه جميعا؟»
فزفر زفرة كادت تكون زحيرا وقال: «إنما أردت من هذه الكلمات التي كتبتها أن أجعلها أساسا أدبيا لشجوية موسيقية أروم نظمها؛ لتعبر عن العواطف التي تتضمنها.»
قلت: «ولكني أراك نحيلا جدا، وأعتقد أنك تحتاج إلى الراحة واستبدال الإقليم.»
قال: «وماذا يفيد استبدال المكان والانقطاع عن العمل، والمسألة ليست مسألة جسم بل مسألة نفس؟ فالنفس لا تحيا باعتدال الإقليم، ولا بتبديل الهواء، ولا بإراحة الجسد، إن النفس تحيا بالعواطف، فإذا قتلت العواطف فكأنك قتلت النفس ذاتها ولا يقتصر ذلك على الأفراد، بل يتناول الأمم أيضا، فإذا عدمت الأمة الشعور الحي فكأنها عدمت وجودها، والشعب الذي يقتل شعور بنيه يقتلهم قتلا، انظر إلى هؤلاء الجماعة الذين يبحثون عن حياة الجسد ويهملون حياة النفس، وقل لي ماذا ترى في حياتهم؟ أترى شيئا غير الخمول يفضلونه على تحمل مشقة النهوض، وغير الجبن يحتمون وراءه لكي يجابهوا مطالب الحياة العليا، وما يصحبها من جهاد يضني الجسد؟ هل لا تراهم يقتلون أنفسهم خوفا على أجسادهم؟ أويعني الحب عندهم شيئا يعلو على حاجة الجسد؟ جردهم من كل كرامة أخلاقية، ومن كل محبة نفسية، ومن كل عاطفة سامية، فذلك أهون عليهم من أن تهان جسومهم، آه كم تؤلمني هذه الحقيقة!»
فأعدت ورقة السلالم الموسيقية إلى مكانها ولزمت الصمت؛ لأن عبارات صديقي كانت كأنها صدى أفكاري وشعوري، ورأيت أنه يحتاج إلى ما ينعش قوته فقلت: «هل تأمر لي بكوبة شاي؟» فقال: «بطيبة خاطر.» وأرسل يأتي بذلك، فلما جاء الشاي جلسنا نشرب، وشرعت أحدثه في أمور من شأنها أن تسري عنه، وبعد أن انتهينا ودعته وتركته ليعود إلى تأملاته التي تمليها عليه نفس شديدة الإحساس، عظيمة الشعور، وعدت إلى منزلي كسيف الوجه جزعا.
صفحة غير معروفة