سليم
وكان هذا الكتاب آخر العهد بالسيدة و. •••
ومرت بعد ذلك الأيام تباعا، ومضى سليم في توقيعه وتأليفه، وكنت أجيء إليه كل يوم أطلع على تقدمه في عمله، وأسمع ما يجربه من الأنغام الجديدة التي تمثل عواطف قلبه القوية وأفكار دماغه السامية، وأبدي له ما يحدثه توقيعه في من التأثير العميق، ثم أعود وقد تولاني جذل لا مزيد عليه، وكان أني انقطعت عن زيارته خمسة أيام متوالية، كنت فيها مشغولا بالبحث عن العصر الذي عاش فيه الشاعر السوري الأكليركي القديم الذي ذكر تاريخ الأدب الألماني لمؤلفه ألفرد بيزي
1
أن قصائده الإلهية ترجمت إلى اللاتينية، ومن هذه إلى الألمانية وغيرها، وأنها سببت نهضة شعرية في كل أوروبا، فلما زرته بعيدها لم أجده جالسا إلى البيانو كعادته، بل ألفيته طريح الفراش في حال لا أخشى التصريح بأنها هالتني، فإن الأيام الخمسة الماضية كانت قد بدلته تبديلا غريبا، فاصفر وجهه ونحل، وذبلت عيناه وهزل جسمه، ومال إلى السقم، ونمت نظراته عن ألم نفسي عظيم، أثر بي منظره وهو على هذه الكيفية تأثيرا عميقا، وشعرت عين شعور الملون الفني الذي يعرف قيمة التلوين حين يرى ملونة بديعة جديرة بالخلود قد تمزقت، أو متحفا فنيا فخما قد التهمته النيران، أو شعور الإنسان الذي يشاهد مدينة ضخمة عظيمة قد طغى عليها بركان هائل، وأخذها على حين غرة، ولكن في الناس أنانيين شديدي التمسك بأنانيتهم حتى إنهم لو شاهدوا تهدم مدينة عظيمة زاهرة، أو تلاشي شعلة الشباب والحياة من جسد إنسان لما شعروا بغير ما يشعرون حين ينظرون إلى شمعة تذوب احتراقا، أو إلى زهرة تذوي لانقطاع الماء عن جذورها والطل عن أوراقها، وهل يشعر الأناني بشيء حين يرى ذوبان شمعة أو ذبول زهرة؟ أنى للأناني أن يفقه شيئا من هذه الرموز وهو منصرف بكليته إلى لذاته ومصالحه؟!
وقفت عند السرير أتفقد حال صديقي بلهفة وجزع، ولكن سليما أجابني على نظراتي بتبسم وضح لي فيه معنى السخرية من كل شئون الحياة، وكان وسط ما هو فيه من عواطف وزعازع داخلية يتمسك برباطة جأش نادرة المثال، فلم أتمالك عن الإعجاب به لهذه الخلة إعجابا فاق ما كنت أضمره له من الإعجاب بأخلاقه وفنه، ثم إنه لم يلبث أن خاطبني قائلا: «ما بالك واقفا والكرسي إلى جانبك؟ اجلس لنتحدث قليلا، أين كنت كل هذه المدة؟»
فجلست على الكرسي الذي أشار إليه وقلت: «كنت أنقب عن العصر الذي عاش فيه تاتيان العظيم.» - «تاتيان؟ ومن تاتيان هذا؟» - «يذكر المؤرخ الأدبي الألماني ألفرد بيزي أن تاتيان شاعر سوري أكليركي مجيد، نظم قصائد روحية كان لها تأثير عظيم في تطور الشعر الأوروبي عامة، والشعر الألماني خاصة.»
فزفر سليم، ثم قال: «هل توفقت في تنقيبك أو هل عثرت على شيء من قصائد هذا الشاعر؟» - «كلا، فالوقت لم يكن متسعا بهذا المقدار، ولا يخفى عليك أن آثارنا الأدبية مبعثرة تبعثرا لا مثيل له، وليس في البلاد معاهد أو مكاتب عامة أو خاصة تهتم بجمع شتات الآثار الأدبية السورية، والمؤسف أن يكون جل أدبائنا - إن لم يكن كلهم - جاهلين تاريخ أدبهم القومي جهلا فاضحا، حتى إنه لا يكاد يوجد بينهم من يشعر بوجوب التوقف عن ثرثرته ولو فترة قصيرة لينظر في حياته الأدبية نظرا أعمق من النظر السطحي، الذي تعود أن يلقيه على الأدب والحياة جميعا، إن معظمهم يسيرون في قافلة الأدب التقليدي.»
وما كدت أنتهي إلى هذا الحد حتى رأيت وجه سليم قد جف وتجهم دليلا على زيادة آلامه النفسية، فصمت وكنت راغبا كل الرغبة في معرفة السبب الذي ألقاه في الفراش لغير مرض، ولكني أشفقت عليه، وصبرت على مضض، وبعد هنيهة قال سليم: «إن آلاما عظيمة، آلاما لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا؛ إذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب، بل عليه أن يسير وحيدا بلا أمل ولا عزاء؛ لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة، فكيفما قلبت طرفك رأيت حولك نفوسا صغيرة متذمرة من الظلمة التي هي فيها، ولكنها لا تجرؤ على الخروج إلى النور، وإذا وجدت نفسا تمد يدها إليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وجدت ألف يد أخرى قد امتدت إليها لتبقيها في الظلمة، ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة، وبقدر ما يبذل لهم من المحبة، يبذلون له من البغض.» وزفر صديقي زفرة حارة، وتابع ذلك بلهجة ساخرة: «ولأهل الظلمة مقاييس للأخلاق والشرف والخصال! والويل لمن يتخطى حدود هذه المقاييس! ولهم أيضا حدود للعواطف البشرية، من تجاوزها كان معرضا للسخط والانتقاد الشديدين، فإذا وجدت فيك عواطف تحملك على ترك المطالب الأنانية والأغراض الهزيلة وترفعك نحو مطلب أعلى يسمو على الشئون الدنية، فأنت معذب عذابا أليما بين أبناء الجيل في هذا الوطن السيئ الطالع.»
قلت: «إنك تتكلم الآن بمرارة نفس شديدة، فهلا زدت ثقتك بي، وأطلعتني على ما دهاك لعلي أجد رأيا فيه الخير.» - «لا حد لثقتي بك، ولكني أشفق أن تتحمل فوق ما أنت متحمل.» - «لا تشفق، فليس العلم بالسوء أعظم وطأة من الشعور به.»
صفحة غير معروفة