على هذا نجد أن العلم محدود تحديدا تاما بسيطا وكذلك الدين. فإذا لم نراع هذه الحدود وإذا لم نراع الدقة في استعمال هذه المصطلحات، لم نستطع أن نحدد التفكير، وبذلك تختلط علينا المقاصد في العلم والفلسفة والدين، بل نعجز عن أن نحدد الأغراض التي ترمي إليها، ونبالغ في تقسيم الحاجات الفكرية والمادية مبالغة قد تصل إلى حد الإفراط حينا أو التقصير حينا آخر، بل لا نخطئ إذا قلنا إن كل المناقشات التي تقوم حول المباحث العقلية، تصبح خليطا من صور الفكر، لن تؤدي إلى نتيجة ولن نصل معها إلى غاية. وبذلك نفسح المجال للجدل المنطقي الذي ذاعت مع ذيوعه مذاهب السفسطة في العصر اليوناني.
لا جرم أن بحثنا هذا يظل ناقصا إذا لم نظهر الباحث على أشياء عديدة يشتبك فيها العلم مع الفلسفة اشتباكا كبيرا. وعلى هذا نبدأ بالكلام في «الفرض»، وليس غرضنا أن نحدد ما هو «الفرض» في المنطق أو ما هو «الفرض» في الفلسفة القديمة، بل نقسم الفرض إلى قسمين: أولهما الفرض الضروري وثانيهما الفرض الإمكاني. ثم نمضي في بيان الفرض الضروري لنستطيع بذلك أن نميزه عن الفرض الإمكاني. أما الفرض الضروري فهو ما يقبله العلم على ما حددناه من قبل. وأما الفرض الإمكاني فلا مكان له إلا في عالمي الفلسفة والدين. (6) تعريف الفرض الضروري «الفرض الضروري هو عبارة عن الحكم الذي يقسر العقل على التسليم به بمقتضى ما في العقل من ألفة؛ لأنه لا يمكن الاحتفاظ به إلا من طريق التسليم بذلك الفرض. في حين أن «العلم»
Science
يضطر إلى التسليم مع العقل بصحة ذلك الفرض، ولو أنه يعجز عن إثباته بالطرق العلمية الموضوعة.» (7) تعريف الفرض الإمكاني «هو الفرض الذي يستوي فيه حدا الوجود والعدم، أو الذي يحتمل أن يكون له حقيقة موجودة، كما يحتمل أن لا يكون له أية حقيقة في الخارج. ومعنى هذا أن العقل إذا سلم بالفرض الإمكاني أم لم يسلم، فإنه يظل محتفظا بألفته كاملة. في حين أن العلم يرفض التسليم بالفروض الإمكانية رفضا باتا تاما، ما لم تثبت صحتها ثبوتا قاطعا بالأساليب العلمية المعروفة.» (8) شرح المذهب في الفرض الضروري
الطريقة العلمية تقوم على وحي الحواس؛ ولذلك يقول الباحثون في الأسلوب العلمي: «كل ما لا تثبته الحواس لا يمكن أن يكون صحيحا.» بهذا قال سبنسر، وجاراه في ذلك الكثيرون. على أن الحواس التي يفقد الإنسان بفقدانها كل ذاتية عقلية فيه ناقصة، لا تؤدي إلينا من الإدراك إلا ما يقوم مقام الفرض الصرف في كثير من الحالات. ولقد عدد فلاسفة العلماء حقائق كثيرة نحن مجبرون على الاعتقاد بصحتها، في حين أن العلم يعجز عن معرفتها وإثبات وجودها بطرقه الموضوعة. وإليك مثال من ذلك:
وجود عالم خارج عن حيزنا
خذ مثلا التكأة التي تكتب عليها، كيف تعرف أنها خارجة عن حيزك؟ وبالأحرى كيف يمكن أن تثبت علميا أنها خارجة عن حيزك؟ إنك إذا نظرت إليها أو لمستها أو وقعت تحت حسك بحال من الأحوال، فكل ما في مستطاعك أن تعرف منها ليس سوى مدركات حواس كائنة فيك، وليست خارجة عن حيزك، لا في لونها وصورتها فحسب، بل أيضا في صلابتها وقوتها. والدليل على هذا أن فقد أعصاب البصر يمنع عينك أن تراها، وأن فقد أعصاب اللمس يمنع عينك أن تحس بها، وأن فقد الحواس جميعها يمنع عينك أن تدرك أنها موجودة البتة.
ذلك في حين أنه وإن لم يكن في مستطاعك أن تعرف من وجود تلك التكأة علميا إلا إحساسات كائنة في حيزك، إلا أن تركيب عقلك قد وضع على نظام يجملك على أن تعتقد بأنها كائنة في حيز خارج عنك. فإذا اعتقدت بما يخالف ذلك، وأخذت تؤدي عملك بما يوحي إليك به اعتقادك هذا، كان ذلك دليلا على أن ميزان العقل قد اختل وتفككت ألفته. هذا فرض ضروري يسلم به العقل قسرا عنه، ويسلم به العلم وإن عجز عن إثبات وجود التكأة في عالم خارج عن حيز الإنسان بأساليبه الموضوعية.
في أن وجود المادة يتوقف على وجود قولي في الجذب والدفع
أما أن قوتي الجذب والدفع حقيقتان طبيعيتان، فذلك ما لا سبيل إلى إدحاضه أو التشكك فيه. فإننا إذا أخذنا جسما صلبا وأردنا أن نفصل بعض أجزائه عن بعض فإنه يقاوم مجهودنا، وكذلك هو يقاومنا إذا أردنا أن نضغط بعض أجزائه، مثبتا بذلك أنه إنما يتركب من دقائق تتجاذب وتتدافع في آن واحد. وإلى هذه الحقيقة تعود ظاهرة التفاعل وعدم التفاعل في العلم الطبيعي، بل وفي أجزاء الطبيعة برمتها، ومع كل هذا فإن هذه الحقيقة تعلو الإدراك العلمي في تعليل كيف أن دقيقة واحدة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها وتقاومها. وفي ذلك يقول سبنسر: إننا لا نستطيع أن نأتي بقطعة من المادة يظهر فيها أن جزءا يجذب آخر في حين أنه يدفعه، ومع هذا فإن الاعتقاد بذلك إلزامي ضروري.
صفحة غير معروفة