وإنما يعين الذاكرة على انتقالها هذا بين المرحلتين المتعاقبتين: مرحلة الكائن المفرد، ومرحلة الكائن الاجتماعي، انتقالنا المادي عندئذ من بيت إلى بيت؛ فقد انتقلت الأسرة - والأسرة إلى ذلك الحين معناها أبي وعمي ومن يتبعهما - انتقلت إلى مسكن آخر في حارة السناجرة، أو ما كان يسمى بهذا الاسم حينئذ بالقرب من مسجد السيدة زينب؛ لأن القاهرة قد تبدلت في يومها عن أمسها، فاتسعت شوارع لتبتلع ما كان يصب من فيها الحواري؛ انتقلت الأسرة إلى مسكن آخر، وفي هذا المسكن الجديد تحددت الروابط بيني وبين أبي - وقد كان لها بدايات سابقة - وبيني وبين أمي، وبيني وبين أخي بصفة خاصة؛ فلأول مرة أشعر بوجود أمي معي، تحميني دون أن تقتضيني مقابل هذه الحماية خوفا، فلم أكن أبدا لأخشى بأسها مهما يكن ما أقترفه جسيما، وذلك برغم صرامتها في معاملتي ضربا و«قرصا» وشتما وزجرا، لكن هذا كله منها كان كالموج الذي يطمئن السابح على حياته بدفعه إلى شاطئ الأمان ولا يهدده بالغرق، ولقد لبث هذا هو الفارق الواضح بين علاقتي بأمي وعلاقتي بأبي؛ كلاهما يحمي، لكنه - دونها - يتوقع مقابلا لحمايته: فزعا منه وخشية لبأسه مما كان يسميه «أدبا».
وكذلك تحددت عندئذ علاقتي بأخي على نحو لم يتغير قط مع تقدم السنين، فكأنما نحن منذ تلك السن الباكرة قد تعاقدنا تعاقدا صامتا غير منطوق ولا مكتوب، أن يكون كل منا حليفا للآخر فيما عسى أن تفاجئنا به الأيام من هجمات المهاجمين؛ والمهاجم الخارجي قد يتغير نوعه، لكن موقفنا في التحالف ثابت؛ فكل منا يطلع أولا فأولا على ما يقترفه الآخر من زلات العصيان، لكن أحدا منا لا يشي بالآخر عند الوالدين أو عند غيرهما ممن يعنيه الأمر، فإذا سئل أي منا عن خطأ وقع: من فعل هذا؟ أجاب: لا أعرف، وتكون النتيجة دائما أن يضرب كلانا؛ فقد كان أخي مغرما بكشط قطع الأثاث بالمبراة، لا يردعه عن فعل ذلك توعد ولا وعيد، لكنه كلما كشط وسئلت: من؟ أجبت: لا أعرف. وكذلك حدث مرة أن اشتروا له معطفا جديدا ولم يشتروا لي نظيره لجدة معطفي، فقصصت معطفي بالمقص شرائط شرائط، حتى أرغمهم على شراء معطف آخر، وسئل وسئلت: من؟ وكان الجواب من كلينا: لا أعرف. فنال العقاب منا على السواء، على الرغم من أنهم يعلمون أتم العلم أنه هو كاشط الأثاث، وأنني أنا الذي قص المعطف.
هكذا تآزرنا على الخير وعلى الشر منذ تلك السن البعيدة، كما يتآزر المعرضون لخطر مشترك، وتلازمنا قياما وقعودا ومشيا وجريا وخروجا ورجوعا ولعبا وجدا، حتى تلازم اسمانا على الأفواه، فلا ينطق أحد باسم أحد غير مقرون باسم الآخر، فيقال «رياض وعماد»، لا ينفصل شق فيه عن شق إلا إذا نودي أحدنا بحرف النداء.
ولعل حارة السناجرة التي سكناها عندئذ أن تكون الحارة الوحيدة في حياتنا التي نزلنا بها لنلعب مع أطفال الجيران، وحتى عندئذ فقليلا ما فعلنا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أن أفراد الأسرة جميعا قد ذهبوا لبعض شأنهم ذات عصر، وتركوا معنا مفتاح البيت، على أن نلعب في الحارة مع الأولاد إلى أن يعودوا، ولست أدري أي فكرة مجنونة طافت برأسينا عندئذ، أن نقيس مقدار شجاعتنا بأن نعري جسدينا ونسير هكذا في مواجهة الأولاد لنرى ماذا في وسعهم أن يصنعوا، لكننا وجدنا من سخريتهم ما لم نحتمله، فصممنا أن نسارع إلى العودة إلى دارنا، ونبحث عن المفتاح فإذا المفتاح مفقود، فوقعنا بين نارين: حملة السخرية التي أخذت تشتد كلما ازددنا أمامها ضعفا، والقلق الشديد المهموم المغموم على هذا المفتاح الضائع، وربما كان ذلك من أول الدروس التي لقنتنا إياها الحياة الاجتماعية فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الفرد بالمجتمع، فإما أن تكون متجانسا مع الآخرين إذا أعوزتك قوة المقاومة، وإما أن تتصف بالجرأة المتبوعة بصفاقة الوجه إذا أردت أن تتفرد وحدك بسلوك خاص؛ أما أن تتحدى المجتمع بالعصيان الذي يأبى التجانس دون أن تكون مزودا بما يلزم هذا من سلاح المقاومة، فذلك إنما يؤدي بك حتما إلى اختلال في اتزان عناصر النفس، ومن ثم إلى صراع داخلي فانطواء، وما هي إلا أن عادت طلائع الأسرة الغائبة لتصدم بهذا الموقف الغريب، وراحت عيونهم تلفظ أوار الغيظ الكظيم، تمهيدا لما هو لاحق بنا حتما إذا ما انفتح الباب ودخلنا، وجيء بنجار، وكسر الباب، ودخلنا، وكان ما كان من عصي تهوي على جسدينا العاريين.
وفي تلك الفترة من عمري دخلت المدرسة الأولية، وكان اسمها مدرسة السلطان مصطفى، عند مدخل حارة الكاشف بجوار المدرسة السنية للبنات، وهي دار أثرية قديمة، ولا أذكر منها شيئا إلا سلالمها التي كانت تبدأ من الباب الخارجي مباشرة؛ فليس للمدرسة فناء. وكان التلاميذ الصغار يتجمعون في حارة الكاشف، المحظوظ منهم يأكل البليلة، وغير المحظوظ تأخذه العزة فيبعد، أو لا تأخذه فيقترب سائلا. وكانت السلالم عالية الدرجات على من كان في مثل عمرنا، وكذلك أذكر شعاعا من الشمس ساعة العصر ينفذ من جهة الغرب خلال النافذة ذات الزجاج الملون، كنت أرتقب سقوط هذا الشعاع على درجي كل عصر فارغ الصبر، ولا أدري هل كان ذلك بسبب الألوان الجميلة التي كان يلقيها ذلك الشعاع أمامي، أو كان ذلك علامة على دنو ساعة الانصراف.
وعلى أي حال فقد كان ارتفاعي في درجة الوعي عندئذ بما يشبه القفز والطيران؛ ففي عام واحد أو عامين، انتقلت انتقالا كالمفاجئ من طفل لا يعي إلى صبي تفتحت حواسه؛ ولا أدل على ذلك من متابعتي لما كان يقوله ابن عم لي وابن عمة يكبراني بخمسة أعوام، وكان عندئذ تلميذين في مدرسة محمد علي الابتدائية، فكانا يفخران أمامي بما يعلمانه مما لست أعلم: كلمات إنجليزية وعبارات، فكنت أسارع إلى حفظها عنهما لأسايرهما فيما يعلمان.
لكن الذي لم أستطع قط أن أسايرهما فيه، هو ما كانا يسميانه «مطارحة» بالشعر، فيقول أحدهما بيتا من الشعر، ليرد عليه الآخر ببيت يبدأ بالحرف الذي انتهى به البيت السابق، فمن أين لهما بهذا الكلام؟ أين يجدانه وكيف يحفظانه؟ وقد مضيت الآن منذ ذلك العهد عشرون عاما، وما زلت أذكر بيتا قاله أحدهما في المطارحة وأعجبني لفظه فحفظته عنه لساعته، فرسخ في الذاكرة - وذاكرتي يغلب عليها الضعف - لسبب لا أدريه، وهو:
نونان نونان لم تكتبهما قلم
وفي كل نون من النونين عينان
حفظته ولم أعلم ماذا عساه يعني، بل لا أظن أن قائله كان يعلم.
صفحة غير معروفة