كان على ناصية الشارع والميدان بقال يرص أكياس الحلوى على نضد رخامي سميك يمتد ما امتدت فتحة الدكان إلا منفذا صغيرا على يمين الداخل، ولو وقف الصغير ذو الأعوام الخمسة ملصقا جسده بالنضد الرخامي من جانبه الخارجي في الطريق، لما رآه صاحب الدكان من داخل، ثم لو رفع مثل هذا الصبي ذراعه، ومد أصابعه وشب على أطراف قدميه، استطاع أن يمسك كيسا من أكياس الحلوى المرصوصة عند حافة النضد، فيجذبه ولا يراه صاحب الدكان، خصوصا إذا أحسن الصغير اختيار اللحظة الملائمة.
ولست أدري كم مرة وقع منا هذا الاختلاس، لكن المرة الواحدة التي أذكرها ذكرا ناصعا، قد كانت ذات صباح - ولا بد أن قد كان الوقت صيفا؛ لأن خلفية الصورة التي أذكرها الآن مليئة برجال الشرطة وقد لبسوا بدلاتهم البيضاء، وقوفا أو سائرين في حركته بطيئة عند مدخل قسم البوليس القريب من ذلك الدكان، فما كدنا في تلك المرة نجذب الكيسين بأصابعنا كما كنا نفعل، حتى نزلت عليها يدان كل يد منهما تمسك بواحد منا، وقبضتا على أعناقنا قبضا وأخذتا ترجاننا رجا، ونصعد بوجهينا إلى أعلى لنرى ما الخبر وكيف حم هذا القضاء، فإذا عينان تلفظان الشرر وشاربان يهتزان على شفة راجفة من شدة الغضب، وفي أحرف متقطعة من شدة الانفعال، قال الرجل - وهو صاحب الدكان - إنه لبث أياما طويلة يعجب بأي أيد خفية تختفي أكياس حلواه، حتى قبض علينا متلبسين، فأخذنا نستعطف الرجل ونعده بالثمن، زاعمين له أن لم يسبق تلك المرة مرات ماضية، وأننا كنا نأخذ ما نأخذه عندئذ شراء لا سرقة، فأطلق سراحنا متوعدا أن يبلغ الأمر إلى والدينا، وقد كان بيتنا مجاورا لدكانه، فكان يرى الوالدين وهما يخرجان من البيت ويدخلان فيه.
إذن فقد قضي الأمر ونزلت الصاعقة! فما الفرق بين أن يعلم أبي بالأمر وبين الموت؟ تسللت إلى البيت خفية كأني الظل، وزحفت تحت السرير حيث قبعت هناك من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل. كانت الشقة التي نسكنها مظلمة، وكانت غرفة السرير أشد ظلاما، ثم كان ما تحت السرير كأنه الليل الدامس، وحسبت أني قد أصبحت من الخطر في مأمن، وإذا كنت أذكر جيدا، فإني أذكر أنني في مخبئي ذاك لم أشعر بخوف، كأنما الطامة قد بلغت بهذا الملاذ ختامها، لكن لم يمض طويل وقت حتى سمعت أصوات المتحدثين في غرف الدار وفي بهوها، من أب وأم، إلى عم وامرأة عم، يسألون: أين رياض؟ ثم يتوجهون بالسؤال إلى ابنة عمي مرة بعد مرة بعد مرة، كأنما المرة الواحدة أو المرتان لا تكفيهم سؤالا: لقد كان رياض معك في الصباح فأين ذهب؟ فتجيب ابنة عمي قائلة في كل مرة يوجهون إليها السؤال: تركته أمام الباب في الشارع، ولا أدري بعد ذلك شيئا.
إنني لا أزال أذكر حتى هذه الساعة، أذكر كيف أخذ الفزع يزداد بهم شيئا فشيئا، فتارة تسكت الأصوات كلها وتخلو الدار من ساكنيها جميعا؛ لأنهم خرجوا يبحثون عني في مظاني، كل يذهب في طريق، وتارة تعود الدار فتعج بأصواتهم يتساءلون في فزع جازعين، وجاء الليل واشتدت عتمته واشتد معها خوفهم، حتى شاء الله لذراع أن تمتد تحت السرير لتجر قفصا صغيرا مخزونا هناك، وراحت الذراع الممدودة تتحسس حتى أحست حركة خفيفة، هي حركة جسمي يزحزح نفسه قليلا إلى ناحية الجدار، فرفعت الذراع ملاءة السرير المدلاة، وإذا بالشارد الضال مختبئ هناك في كهف! فصرخت صاحبة الذراع - ولا أذكر من هي - صرخة امتزجت فيها الفرحة بالدهشة بالترحيب بالوعيد بكل العواطف الإنسانية حين تمتزج في خليط واحد، وأخرجت من مكمني جرا إلى البهو، يسألونني ولا أجيب، وأخيرا جاء أبي من دورة بحثه عني ، فإذا هو يلقاني فيدهش فيسأل، ولا جواب إلى هذه الساعة.
وضحك الأحدب ضحكة صافية من كل شوائب السخرية التي كثيرا ما يمزج بها ضحكاته، وقال: أحسب أن صاحب الدكان لم يقل شيئا لوالدينا، وأن ابنة العم كتمت أمرها وأمري، فلم يزد أهلي عندئذ على أن أضافوا هذا «الفصل» إلى فصول أخرى كانوا يحصونها علي ولم أكن أدري من أمرها شيئا، مما كانوا يتخذونه دليلا على زعم لهم عني ثبت عندهم ورسخ، وهو أني «عبيط»، وها هو ذا شاهد على «عبطي» جديد، فكان مما يتندرون به دائما أني وأنا صغير - الظاهر أن سن الخامسة عندهم كانت سنا كبيرة - كنت آخذ منهم خمسة القروش أو عشرة القروش، لأشتري لهم شيئا من الطريق، فأغيب عنهم قليلا ثم أعود لأقول: لقد أكل الحمار قطعة النقود، فيذهب منهم ذاهب ليجد قطعة النقود موضوعة في فجوة كانت بين أحجار الحائط عند مدخل البيت.
فرغ رياض عطا من ذكرياته، وهو منبسط النفس، منشرح الصدر، معتدل القامة، حتى كدت لا أرى على ظهره قتبا، وكأنما النشوة التي شاعت في أساريره قد قللت من عمره فجأة عشرة أعوام كاملة، وكانت الشمس قد غابت وبقايا الشفق القرمزي منتثرة في الأفق، حين حييته وانصرفت إلى مدخل الدرج، ونزلت أتحسس الطريق بقدمي درجة درجة حتى كنت في الطريق أسير الهوينا من عمق انشغالي بالأحدب وقصته.
أي مفتاح تريد لشخصيته أجلى وأوضح من هذا الذي ذكره الآن؟ إن اختفاءه في الظلام اتقاء لشر مرتقب، ثم إرهاف الحس ليتتبع مجرى الحوادث من حوله دون أن يغادر مخبأه، فيهما محور حياته كلها؛ انطواء من ناحية، وتسلل بالسمع والبصر في الخفاء إلى ما يدور في العالم من وقائع وأحداث من ناحية أخرى، إنه كمن يريد أن ينظر إلى العالم من ثقب الباب، يريد أن يرى ولا يرى، إنه ليخيل إلي أن شخصيته نسيج من ثلاثة خيوط، يأس أكثر من الرجاء، وانطواء أكثر من الظهور، ورغبة في إقامة البرهان على قدراته ليمحو به تهمة «العبط» والتي اتهموه بها وهو صغير؛ أما اليأس فقد كانت بداية خيطه حادثة الحصان المهشم، وهي الحادثة التي تلاحق فيها الأمل والخيبة تلاحقا مباشرا؛ وأما الانطواء فقد كانت بداية خيطه حادثة كيس الحلوى حين أحس الطمأنينة في مخبئه تحت السرير؛ وأما تهمة «العبط» فقد بدأت قبل أن تعي ذاكرته أولى الحوادث التي كانت تسوغها.
وبالإضافة إلى هذه الأضواء التي بدأت تكشف لي عن سره الدفين، فكأنما انفتحت لي طاقة في السماء ليلة القدر حين نظر إلي بعين فيها النفاذ وفيها طيبة القلب، وقال مبتسما: كأني بك تريد عني مزيدا من علم! ونهض بحركة سريعة واستخرج لي من خزانة ملابسه كراسة ممزقة وقال: هاك مذكرات كنت كتبتها من سنين وهممت بتمزيقها، ثم عدت فأبقيت على ما بقي منها، فلعلها تشفي عنك غليلا.
الفصل الثالث
أطلال دوارس
صفحة غير معروفة