فلما رأى بنو طارق ما فعل قيس بإخوة الولهان حملوا عليه حملة واحدة منكرة، فحمل قيس وغاص في أوساطهم وجعل ينكس فارسا بعد فارس؛ وبطلا بعد بطل حتى قتل أربعمائة فارس وفر الباقون بين يديه، وهو يطردهم يمينا وشمالا حتى انقضى النهار، ثم رجع عنهم والدم يجري على ذرعيه كأكباد الإبل، ثم إن قيسا أتى إلى المقداد وسلم عليه وقال: والله العظيم، لولا أسفي على مفارقتك ما رجعت عنهم إلا قرب بلادهم، ولكني ما شبعت من حديثك فوالله لو كنت أحبو على بطني وأزحف على ركبتي ما يقدر الولهان علي، ولكنه قد اغتالني وأنا نائم بمرقدي. فقال المقداد: لقد بان فضلك وجودك يا قيس، فبقي المقداد مع قيس في ذلك الوادي ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الرابع سمع بنو قيس ما جرى على قيس من الولهان، فركبوا عشرة آلاف فارس وصاروا طالبين معينا، فلما قربوا منهم قال المقداد يا قيس: من يكونون هؤلاء؟ قال: قومي وبنو عمي. ثم نهض قيس إلى ملاقاتهم فلما التقوا معهم فرحوا بخلاصه. قال قيس: يا قومي ما ركب هذا الرأس على هذا الجسد إلا هذا الفارس المعتمد، ثم إن قيسا أنشد يقول:
ألا يا بني عمي وجمع عشيرتي
فإن قيسا من نتاج الأماجد
فلولا الفتى المقداد ما كنت سالما
ولست أجزيه بطول المحامد
قال الراوي: ثم إن قيسا قال: يا بني عمي، إن خلاصي وسلامتي على المقداد، فمن أعزه أعزني ومن أكرمه أكرمني. ثم إن قيسا سار هو والمقداد معه وبنو عمه حافين به والمقداد يمينا وشمالا إلى أن أتوا إلى منازل الديار، فلما وصلوا إلى الحي نزل قيس في بيته وفرش الفراش والمطارح والمساند، وأمر له بكرسي من الساج المرصع بالدر والجواهر، فجلس المقداد عليه واستدعى لنفسه كرسيا من الحديد الصيني وجلس عليه ونادى قيس: ويلكم أيها الأعمام وأكرموا المقداد بالعطايا. ثم إن قيسا نادى عبده وقال: ائتني بمائة رأس من الخيل العتاق ومائة ناقة محملة من صنايع مصر وتحف الشام ومائة جارية ومائة أوقية من العود القماري، وألف أوقية من الذهب الأحمر وألف أوقية من الفضة البيضاء. وأحضر بنو عمه من الأموال شيئا كبيرا وأتحفوه بالخيل والجمال. ثم إن قيسا قال: يا مقداد: خذ هذا المال ولكن ما هو إلا دون قدرك. فقام المقداد وأخذ يد قيس وقال له : الله يخلف عليك ويجزيك بالخير.
ثم إن المقداد أقام عند قيس بالضيافة عشرة أيام، ولما كان اليوم الحادي عشر أتى المقداد إلى قيس وقال: أعطني رعاة يرعون الخيل والجمال، وجعل المال في صناديق، وقال لقيس: يا أخي يكون عندك هذا المال وديعة، وأنا لا بد من المسير إلى كسرى وأرض العراق. فقال له قيس: يا مقداد أنا أسير إلى حي بني كندة وآخذ المياسة قهرا وأسلمها ليدك. فقال المقداد: الله يخلف عليك يا أخي؛ ما يحتاج إلى هذا كله ولا تصلح لي معاداة الرجال ومعاندة الأبطال، وأنا لا بد لي من المسير إلى العراق وإلى الملك كسرى. فقال قيس: أنا أسير معك ولا أفارقك خطوة واحدة. ثم إن قيسا ركب مع المقداد ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع ترجل المقداد عن جواده وقال: يا أخي أقسمت عليك برب الأرباب ومسبب الأسباب إلا ما رجعت إلى مكانك وإلى مكثك وإلى بني عمك. فعند ذلك ودع قيس المقداد ورجع إلى أهله.
وأما المقداد فإنه ركب جواده وصار طالبا الملك كسرى وأرض العراق، قال البكري: ثم إن المقداد سار طالبا العراق بثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أشرف على أرض معطشة لو سلك فيها أسد لهلك، قال: ثم إن المقداد قد عضه العطش والجوع، فبينما هو سائر وإذا قد أشرف على بئر ماء وغزلان تمرح في فلاة معتدلة ففرح بوجود الماء، وإذا هو بهاتف من الجن يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو ينشد ويقول:
أيها الوارد أرض الجان
صفحة غير معروفة