وسط هذا الظلام الحالك كان المصريون يقلبون وجوههم في كل اتجاه يلتمسون قيادة حكيمة تخرجهم من هذه المتاهة، وتفهم عنهم آلامهم، وتقدر آمالهم وتقودهم نحو الطريق السوي للتخلص من ربقة هذا التدخل الأجنبي الذي كانت تضيق قبضته حول رقابهم يوما بعد يوم، وللخلاص من هذا الارتباك المالي الذي أنتجته سياسة إسماعيل.
وكان المصريون بعد هذا يتطلعون إلى قيادة منهم تحقق آمالهم في الحرية والاستقلال؛ فقد كانت الدولة العلية صاحبة السيادة الاسمية في شغل شاغل عن مصر ومشاكلها، ولم يكن يعنيها إلا أن تستعيد سلطانها العتيق الفعلي على مصر، وكان توفيق صاحب العرش شخصية ضعيفة مترددة، ومع هذا كان ديكتاتوري النزعة لا يؤمن إيمانا صادقا بالدستور أو الحياة النيابية أو حقوق الشعب، وكان يعنيه أن يرضي دول أوروبا قبل إرضاء المصريين، وخاصة بعد أن شاهد بعينيه كيف عزل أبوه نتيجة لتدخل أوروبا، وهو إلى هذا كله لم يكن يثق بمعظم رجال الحكومة وخاصة أولئك الذين كانوا يعملون مع أبيه.
الثورة العرابية
أشاح الشعب المصري إذن بوجهه عن الدولة صاحبة السيادة وعن الحاكم صاحب العرش، وتطلع إلى قيادة من بنيه ، ولم يطل انتظاره، فقد ظهرت هذه القيادة في شخص مصري فلاح هو أحمد عرابي أحد ضباط الجيش.
وقد بدأت الحركة العرابية حين بدأت داخل الجيش ولإصلاح الجيش، ولكنها لم تلبث أن تطورت فأصبحت ثورة عامة عارمة واحتضنت كل آمال الشعب، وأخذت تعمل على تحقيقها. وتاريخ الثورة العرابية تاريخ غريب أو هو يبدو كذلك لمن ينظر إلى التاريخ نظرة سطحية، أو لمن لا يتعمق الأسباب، ويدرس المقدمات، ويربط بينها وبين النتائج.
ثورة تبدأ حركة ضعيفة في ركن من الأركان، داخل الجيش لإصلاح الجيش ولإنصاف الضباط المصريين من اضطهاد السيطرة التركية الجركسية، ثم تتطور إلى أن تصبح ثورة عامة تنعقد عليها آمال شعب بأسره وتصبح اللسان المعبر عن كل ما يشكو منه الشعب من تدخل الأجانب، ومن اضطراب الأحوال المالية، ومن فقدان الحرية وضياع الكرامة، وتتبلور هذه الآلام والآمال سريعا فتصبح أهدافا واضحة تعمل الثورة على تحقيقها، وفي مقدمتها إصلاح الجيش واستعادة الحياة الدستورية. ثم، ثم تنتهي هذه الثورة بالفشل، بل وباحتلال دولة أجنبية لأرض الوطن، وهذا أغرب الغرائب في تاريخ الثورات.
كيف بدأت إذن هذه الحركة؟ وما أسبابها؟ وكيف تطورت فأصبحت ثورة؟ ثم كيف أخفقت وانتهى الأمر بمجيء إنجلترا إلى مصر؟
التاريخ لا يعرف المفاجآت، بل إن المتعمق في دراسته ودراسة فلسفته يرى أن له قوانين منطقية كقوانين الطبيعة؛ فالحركة العرابية لم تظهر فجأة، بل لقد كانت هناك مقدمات وأسباب مهدت لظهورها، ولعل أهم هذه الأسباب وأبرزها ظهور حركة الجامعة الإسلامية ونموها.
لبثت الدولة العثمانية تحكم دول الشرق الأوسط العثماني قرابة ثلاثة قرون، حرصت في خلالها على أن تضع لهذه الدول نظما تربطها بالدولة وتديم سيطرتها على هذه الولايات أطول مدة ممكنة، وأدت هذه النظم إلى تشاحن القوى لابتزاز الأموال، وتطاحنها للاستئثار بالسلطان، فساءت الأحوال ثقافيا واقتصاديا وحربيا، وإبان هذا أغلقت الأبواب والنوافذ في هذه الدول فانقطعت الصلة تماما بينها وبين أوروبا في وقت كانت أوروبا تنهض فيه نهضة علمية صناعية حربية، فلما وافى القرن التاسع عشر وبدأ الأوروبيون يعملون لتحقيق أحلامهم القديمة والسيطرة على الشرق الأوسط الإسلامي، وطرقوا الأبواب فلم يجدوا مدافعا؛ لأن الدولة العثمانية نفسها كانت قد آل أمرها إلى الضعف والانحلال، وبدأ الأوروبيون يزحفون نحو العالم الإسلامي زحفا وئيدا أكيدا، باسم المال والاقتصاد حينا، وباسم المصالح الأوروبية حينا آخر، وباسم القوة الغاشمة حينا ثالثا، عند ذلك ظهر شعور مضاد يعمل على تخليص العالم الإسلامي من سيطرة الغرب، هذا الشعور هو الذي كون فكرة الجامعة الإسلامية؛ فقد كان زعماء هذه الحركة ينظرون إلى الماضي المجيد يوم كان العالم الإسلامي قوة لها شأنها فيجدون أنه كان قوة يوم أن كان وحدة غير منفصمة العرى، وكانوا ينظرون مرة أخرى فيجدون عالمهم الإسلامي ضعيفا متخاذلا مغلوبا على أمره، وكانوا يجدونه متفرقا منفصم العرى، وقرنوا النظرة بالنظرة، واعتقدوا - وكانوا محقين في اعتقادهم - أن الوحدة الجامعة كانت سبب القوة، وأن الفرقة المتخاذلة هي سبب الضعف، فآمنوا أن حاضرهم لا يصلح إلا بما صلح به أولهم، وبهذا ولدت فكرة الجامعة الإسلامية.
كان روح هذه الحركة وزعيمها الأول جمال الدين الأفغاني.
صفحة غير معروفة