وأقول: الاستقلال؛ لأن أساس التعليم الجامعي حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، ولأن التربية الجامعية قوامها حرية العمل والبعد عن التأثيرات الحكومية، وتأثيرات البيئات العامية، وعن تأثيرات البيئات السياسية المختلفة. (3) استقالتي من الجامعة
وقد حرصت منذ توليت منصب مدير الجامعة على أن تكون بعيدة عن هذه التأثيرات، وأن يكون استقلالها محل الاحترام والقداسة، ولكن حدث في مارس سنة 1932 أن اعتدت وزارة المعارف على هذا الاستقلال، فنقلت الدكتور طه حسين من عمادته بكلية الآداب إلى إحدى الوظائف بديوان الوزارة دون أخذ رأي الجامعة، وإن لم تكن الوزارة في ذلك قد جاوزت حدود القانون الجاري العمل به إلا أنها جاوزت حدود التقاليد الجامعية، فغضبت لهذا الاعتداء على هذه التقاليد، وقابلت دولة رئيس الوزراء في ذلك الحين إسماعيل صدقي باشا، وشرحت له هذا الموقف الذي يتنافى مع التقاليد الجامعية، ويسيء إلى الجامعة وقلت له: إن الجامعة لا تستغني عن طه حسين، واقترحت عليه - تلافيا للضرر، واحتراما لرأي الوزير حلمي عيسى باشا - أن يرجع الدكتور طه بك أستاذا بكلية الآداب لا عميدا، وقد وافقني رئيس الوزارة على اقتراحي، وفي اليوم التالي علمت برفض اقتراحي، وتنفيذ رأي الوزير، فلم أذهب إلى الجامعة، وحررت استقالتي وبعثت بها إلى وزير المعارف العمومية في هذا الكتاب التالي:
هليوبوليس 9 مارس سنة 1932
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية
سيدي الوزير
أتشرف بإخبار معاليكم أني أسفت لنقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وزارة المعارف؛ لأن هذا الأستاذ لا يستطاع - فيما أعلم - أن يعوض الآن على الأقل، لا من جهة الدروس التي يلقيها على الطلبة في الأدب العربي ومحاضراته العامة للجمهور، ولا من جهة هذه البيئة التي خلقها حوله وبث فيها روح البحث الأدبي وهدى إلى طرائقه، ثم أسفت لأن الدكتور طه حسين أستاذ في كلية الآداب تنفيذا لعقد تم بين الجامعة القديمة ووزير المعارف، وعلى الأخص لأن نقله على هذه الصورة بدون رضا الجامعة ولا استشارتها - كما جرت عليه التقاليد المطردة منذ نشأة الجامعة فيما أعرف - كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضروريين لإجراء الأبحاث العلمية، وهذا بلا شك يفوت علي أجل غرض قصدت إليه من خدمة الجامعة.
من أجل ذلك قصدت يوم الجمعة الماضي إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، واستعنته على هذا الحادث الجامعي الخطير، واقترحت على دولته - تلافيا للضرر من ناحية، واحتراما لقرار الوزير من ناحية أخرى - أن يرجع الدكتور طه حسين إلى الجامعة أستاذا لا عميدا، خصوصا أنه هو نفسه ألح علي في أن يتخلى عن العمادة منذ شهر فلم أقبل، فتقبل دولة الرئيس هذا الاقتراح بقبول حسن، وأكد لي أنه سيشتغل بهذه المسألة منذ الغد، فاشتغل بها إلى أن علمت الآن أن اقتراحي غير مقبول، وأن قرار النقل نافذ بجملته وعلى إطلاقه.
ومن حيث إني لا أستطيع أن أقر الوزارة على هذا التصرف الذي أخشى أن يكون سنة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها، أتشرف بأن أقدم بهذا إلى معاليكم استقالتي من وظيفتي، أرجو قبولها، كما أرجو أن تتقبلوا شكري على ما أبديتم من حسن المجاملة الشخصية مدة اشتراكنا في العمل، وأن تتقبلوا فائق احترامي.
ثلاث مخالفات
هذا هو خطاب استقالتي، وهو يدل على أن وزارة المعارف ارتكبت في حادث نقل الدكتور طه حسين ثلاث مخالفات
صفحة غير معروفة