نعم، كان العالم المفكر فتحي زغلول يرى أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح، لا بعدد السنين والأيام.
مثال الموظف المتفاني
وقد كان فتحي زغلول أصغر أنجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان أبيانة، ولد في تلك القرية في ربيع الأول سنة 1279ه، ومات أبوه إذ كان رضيعا، وكان شقيقه سعد زغلول فطيما، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهيرة بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين، فقامت على ولديها، ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيهما المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان.
تعلم «فتح الله» الصغير في كتاب البلد، ثم في مدرسة رشيد، ثم في المدرسة التجهيزية، ثم في مدرسة الألسن، فاتفق أن زارها المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية، فأعجب بذكاء الشاب «فتح الله» وأعطاه اسم أحمد، ونحت من فتح الله «فتحي» وأصدر أمرا رسميا إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي، وبأن يرد إليه ما دفع من المصاريف المدرسية، وبأن يتعلم بالمجان، فلما كانت سنة 1884 أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق، فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة 1887، فوظف بقلم قضايا الحكومة، ثم رئيسا لنيابة أسيوط، ثم رئيسا لنيابة الإسكندرية، ثم مفتشا بلجنة المراقبة فرئيسا لمحكمة الزقازيق ، ثم رئيسا لمحكمة مصر، ثم وكيلا لنظارة الحقانية، وهي الوظيفة الأخيرة التي مات وهو قائم بها.
كان فتحي مثال الموظف المتفاني في أداء واجباته، القائم بعمله وعمل غيره أحيانا، ولم يمنعه ذلك من أن يكون مترجما أمينا ومؤلفا كبيرا.
إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص - تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض - راجع معظمها إلى التأثر الوراثي من أبويه، وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل وبما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
ولا عجب فأمهاتنا نحن القرويين منهن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارف على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق، وعزة النفس، والذوق السليم في الحكم، والطيبة والتقوى في المعاملات، ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي، فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية، ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق.
فللأمهات القرويات أن يقبلن شكر الجيل الحاضر، وعلينا أن نعترف علنا بما للأمهات من الأهمية العظمى في توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى.
وأمامنا المثل الحسي: إن هذه الوالدة القروية ينسب إليها الفضل الأكبر في أنها أخرجت لمصر نابغتين عظيمين: سعد زغلول وشقيقه فتحي زغلول.
الفصل الحادي عشر
صفحة غير معروفة