مر بنا القطار بغير المدائن، مر بحقول جميلة فسيحة قليلة الغلة معظمها كلأ ترعاه الأنعام، والقليل مزروع حنطة، والأقل منه مزروع خضرا وفواكه، فخطر في نفسي لمشهد هذه الأرض القليلة الغلة كيف أن الإنجليز بهذه الأرض أغنياء؟
خطر لي هذا الخاطر السريع غير الناضج؛ لأني فلاح من قوم كل ثروتهم مما تنبت الأرض، ولم ألبث أن لحظت موارد الثروة الإنجليزية الطائلة من الصناعة التي كنا - نحن المصريين - نحتقرها بعض الشيء، والتجارة التي كنا نأباها بعض الشيء؛ بسمت لهذا الخاطر، وذكرت ذلك المثري المصري الذي كان لا يجلس إليه أحد إلا سأله: كم فدانا يملك؟ أو كم فدانا من القطن يزرع هذا العام؟ وأمثال ذلك مما يشف عن فكرته في أن قيمة الرجل في ثروته، وأن كل الثروة هو ما يملك من الأرض وما يزرع فيها من القطن، فلقد كان مثلي مثل ذلك المثري المصري، وذهلت عن حقيقة اجتماعية من أكبر الحقائق؛ وهي: أن غنى الأمة وسعادتها ليسا في خصب أرضها ولا في صفاء جوها، واعتدال منطقتها، وليس بضخامة مدائنها، بل بمقدار عدد المهذبين من أبنائها، فهم الذين يبنون مجدها، وهم الذين يخلقون غناها، نعم إذا أعوزتها خصوبة الأرض خلقوا لأمتهم بعقولهم وعلمهم من الصناعة والتجارة والاعتماد على الذات والمخاطرة في سبيل المنفعة ثروة تفوق الثروة الزراعية أضعافا ومجدا طارفا لا يطاوله المجد التليد.
تمثال نلسون
دخلت لندرة، وأول ما يلفت النظر فيها تمثال نلسون؛ تمثال أقيم على قاعدة عالية جدا على غير المألوف بحيث لا يطاوله في مكانه الرفيع تمثال أمير من الأمراء أو ملك من الملوك، فإن رءوس أولئك مهما علت لا تطول ربع القاعدة التي يقف عليها نلسون بقدميه، أجل إنه كان في الحياة رجلا عاليا، فأعلى قومه مكانته في الممات على كل من عداه.
كذلك يجل الإنجليز رجالهم ما دامت أعمالهم تشرفهم وترفع أقدارهم على أقدار الذين نالوا الشرف بمجرد الميلاد.
لا يغشى السائح مجلسا من مجالس السمر في الأدب إلا ترى الإنجليز يتحدثون عن شاعرهم شكسبير بلسان الفخر، والإجلال والاحترام؛ ترى تمثاله في المتاحف، وتسمع ذكره في الأندية، وتشهد رواياته على المسارح، ولم يمنعه أنه كان ممثلا من أن يكون في قلوب الإنجليز أعلى مكانة من ملوكهم الأولين.
هايدبارك والأزبكية
في أبناء الإنجليز عادات تأصلت في نفوسهم، وصارت لهم أخلاقا، أزعم أنها هي وحدها السبب في قوتهم؛ تلك القومة المستفادة من جدهم في العمل وتقديسهم لمعنى الواجب، ومن أخص ما لاحظت من تلك الصفات حرية القول والاستماع لكل قائل من غير أن يصادر أحد حريته، من ذلك أني رأيت خطباء كثيرين يخطبون في حديقة «هايدبارك» بعضهم واقف على الأرض، وبعضهم يعلو منبرا متنقلا، منهم الشيخ ومنهم الشاب، بعضهم على مقربة من بعض حتى نقدت عليهم سوء اختيارهم لهذه المزاحمة المادية للمكان، والمسرح فسيح الأرجاء لا يضيق بآلاف الخطباء، وتمر جماهير الناس بهؤلاء الخطباء، ويقف كل واحد منهم على الخطيب الذي يعجبه، فيصفق له مع المصفقين.
ليس الهايدبارك هذا منبرا خاصا بأولئك الخطباء العاديين الذين قد يبدأ الواحد منهم خطابته على فرد أو فردين أو ثلاثة، بل هو أيضا منبر عام لكبار الساسة والخطباء المفوهين؛ فقد كان غلادستون كلما ضاقت قاعة البرلمان بصوته العالي وأغراضه الكبيرة عمد إلى هذه الروضة العامة يخطب فيها الألوف من الناس ساعات متوالية فيحول الأمة من فكرة إلى فكرة، ويخرجها من مقصد إلى مقصد، وكذلك كان «كرهاردي» ونحوه من خطباء الإنجليز إلى اليوم يخطبون في الناس من غير ملاحظة رسوم أو نظام أو اشتراط دعوة حتى تكون الأمة واقفة بواسطة هذه الألسن الرسمية على أحوال الحكومة، فلا يفوت فردا من الأفراد أي مقصد من المقاصد الكبيرة للحكومة، كإعلان حرب أو سلم، أو تقريب بين أمتهم وأمة أخرى أو ضرب ضريبة عامة، أو إعطاء النساء حق الانتخابات بحيث إن العامل البسيط في لندن يعرف من خطب الوزراء والنواب في «الهايدبارك» طرفا أو نتفا من قواعد مصالح الأمة التي مصلحته الشخصية بعض منها، ولكن كان وزراؤنا ونوابنا - سامحهم الله - يجتنبون الكلام حتى في سياستنا الداخلية إلا ما يكون من التهامس في الآذان في الخلوات والنوادي بينهم وبين أخصائهم الأقربين.
هذا كله إذا عرفوا جليا مقصد الإنجليز أو مقصد السراي في مشروع من المشروعات، فهل منهم من يقف يوم الجمعة في حديقة الأزبكية فيبين للناس مقاصد الحكومة في أي أمر من الأمور العامة؟
صفحة غير معروفة