لورد كرومر أمام التاريخ
(1) أعمال اللورد كرومر
في أوائل سنة 1907 استقال اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر، وذلك بعد أن مضى على حادثة دنشواي الشهيرة نحو عام، تلك الحادثة التي أبرزت سياسته الاستبدادية للعالم بصورة بشعة، وأوضحت أعماله الاستعمارية لمصلحة قومه وبلاده بحالة لا تتفق مع مكانة دولة متمدنة، ومع ذلك فإن هذه الاستقالة عزيت إلى سبب آخر هو ضعف صحته، ومهما يكن هذا السبب فإنه لو كان قد بقي لورد كرومر عاما واحدا في منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته؛ لأنه صرف حتى يوم استقالته تسعة وأربعين عاما في خدمة المصلحة البريطانية، ولقد أصدرت من صحيفة «الجريدة» في ذلك الحين ملحقا ذكرت فيه لمعة من ترجمته، ثم فصلت أعمال ذلك السياسي بما له وما عليه، فقلت: تنقسم أعمال اللورد في مصر إلى قسمين: أعمال مالية واقتصادية، وأعمال سياسية. (2) أعماله المالية والإقتصاية
أما أعماله المالية الاقتصادية فيبتدئ تاريخها في مصر سنة 1877 إذ عين عضوا إنجليزيا في صندوق الدين المصري، فأظهر لدولته من صدق النظر وسعة الاطلاع في المسائل المالية ما أنساها القاعدة القائلة: إن الذي يربى بين البنادق والمدافع كالشاب «أفلن بارنج» لا يميل به طبعه إلى المالية أو السياسة.
وفي سنة 1879 اتفقت الحكومتان البريطانية والخديوية على تعيينه مراقبا عاما للمالية المصرية؛ لأن إنجلترا كانت تهتم مع فرنسا أشد اهتمام بالمالية المصرية؛ صونا لأموال الإنجليز والفرنسيين، فأظهر براعة كبيرة، وكان في جملة الذين مهدوا السبيل لإصدار قانون التصفية
1
الذي ضمن للدائنين الأوربيين أموالهم مع فائدتها، وقبل أن يصدر ذلك القانون حدث أن مالية الهند ارتبكت ارتباكا شديدا فعينته حكومته عضوا ماليا في المجلس الهندي، وهناك لم يفعل إلا ما زاد حكومته ثقة به.
ولما تقرر أن يغادر السير إدوارد مالت معتمد إنجلترا في القطر المصري، لم تجد الحكومة البريطانية رجلا أخلق بمنصبه من لورد كرومر (وكان لا يزال اسمه السير أفلن بارنج)، ولما اجتمع مؤتمر لندرة سنة 1884 للنظر في المالية المصرية كان فيه مندوبا محترم الرأي، وكان يقول مثل كل عاقل: إنه لا يمكن الإصلاح في مصر قبل أن تقوم المالية فيها على أساس متين، ولا تقوم المالية على ذلك الأساس إلا إذا زادت مواردها ووثقت بها أوربا، ولا تزيد مواردها إلا إذا تحسنت أحوال الري على الأخص، فأصبحت أرض مصر تنبت من الخيرات كل ما تقدر على إنباته، وأما الموارد الأخرى كالجمارك والسكك الحديدية والبوستة، وسائر مصادر الدخل فإنها تأتي في المقام الثاني، ولذلك أفرغ كل جهده لدى الدول حتى حملها على عقد قرض خص جزءا منه بالري.
وما إن جاء سنة 1899 حتى صار دخل الحكومة (11415000 جنيه) وكان كلما زاد التحسن في المالية، زاد في المساعدة على تخفيف الضرائب، غير أن النفقات كانت طائلة بسبب فوائد الديون ونفقات المشروعات.
وكان لدى لورد كرومر مشروعان يؤلمانه ويشكو منهما؛ أولهما: صندوق الدين، والثاني: وهو متعلق بتخصيص ما قيده قانون التصفية بالديون كالدائرة السنية والدومين ونحو نصف دخل السكك الحديدية، فلم يجد وسيلة للخلاص من هذين المشروعين سوى الاتفاق مع فرنسا أولا، وحدث أن الملك إدوارد مال إلى هذا الاتفاق، وحببه إلى حكومته، فاغتنم كرومر الفرصة، وأيده بما استطاع، كما ذكر أخيرا في حديثه مع مراسلي الطان.
صفحة غير معروفة