تلك كانت حياتى - فقد نشأت فى بيت صارم التقاليد فى ساحته الواسعة مصلى وميضاة، وعلى جانبى مدخله غرف لإقامة الأتباع والتلاميذ والمريدين، وكانت آخر هذه الحجرات، مما يلى الساحة مباشرة - غير مسقوفة، وكانت تتخذ اصطبلا لمن له بغلة أو فرس أو حمار، وبعد المغرب من كل خميس يجتمع المفرقون من هؤلاء الأتباع فى المصلى، ويتلون «الورد» وهم قعود ثم يذكرون الله، ثم يقومون إلى صلاة العشاء، ثم إلى الطعام فالخلوة، وفى الفجر يخرجون إلى مقبرة الشيخ الكبير.. وهناك يتلى «الورد» مرة أخرى، وتعقد حلقة الذكر.. ثم يؤكل «الفول النابت» والخبز.
وكان يروقنى هذا ويستولى على خيالى، فأشاركهم فيه، وأتلو الورد الذى يتلونه، وأصلى على النبى كما أراهم يصلون، وأهز رأسى وجسمى فى الصف عند «الذكر» كما يفعلون، وأحاول - عبثا - أن أجعل صوتى غليظا عميقا، وأرافقهم فى الفجر إلى المقبرة، وأزيد عليهم فأعرج على قبر أبى فأزوره ثم أرتد إلى الحارة واللعب، والقلب راض والنفس ساكنة.
ولم يكن هذا بيت أبى، وإنما كان بيتا يسع من شاء من الأسرة أن يذهب إليه ويقيم فيه، فقد كان واسعا كبيرا، فلما مات أبى وساءت حالنا بعده، اتخذنا لنا فيه شقة اقتصادا فى النفقة، وعز على ذلك فى أول الأمر فقد كان لنا بيت خاص لا يشاركنا فيه مشارك، وكان عندنا الخادم والخادمة والبواب والبستانى، ومن العجيب أنى أذكر مدخل البيت وساحته الرحيبة وحديقته والنافورة والحجرات من حول ذلك، وفيها مكتب أبى ومكاتب الوكيل ومساعديه ولكن ماعدا ذلك بهتت صوره، وأذكر أنى كنت أدخل على أبى فى مكتبه وعنده أصحاب القضايا، فأقف إلى جانبه وهو منكب على الورق، وأنا ساكت لا أقول شيئا ولا أتحرك، حتى يرفع رأسه ويمد يده إلى فنجان القهوة، فأقول بصوت خفيض «أبويا. أبويا. أبويا هات قرش..» فيضع يده فى جيبه ثم يخرجها بما تخرج به - بقرش أو نصف فرنك، أو أقل أو أكثر - فأتسلل بما أعطيته، فألفى أخى الأصغر ينتطرنى عند الباب، فنخرج إلى الحارة حيث نجد بائع الدندرمة.. فندفع إليه ما معنا، ونأكل حتى نشبع ونحمد الله، أو لا نحمده فنميل على دكان مجاورة لبيتنا فنشترى كرات وبليا وما إلى ذلك - نبدد الفلوس والسلام وكان أخى أصغر منى وكان جميلا مشرق الديباجة سمينا وبضا غضا، فكان أبى يخاف عليه أن تصيبه العين، ومن هنا أمر ألا يدخلوه عليه فى المكتب لئلا يراه ذو عين فيحسده، فاتفق يوما أنى كنت عند عمتى، فلما مر «بائع الدندرمة» أقبل عليه الغلام بالطلب كالعادة، فناوله من مثلجاته، ولم يجد أخى معه ثمن ما أكل، فخلع طربوشه. وعرض على الرجل أن يقبله بديلا من الثمن وكان أخى ولا يزال عظيم الرأس، فطربوشه يصلح للكبار، فمضى الرجل به ولم يعد بعدها لسوء حظه.
ومن الصور التى لا تزال ماثلة أمام عينى، أن جدى دخل على أبى فى مكتبه يتوكأ على عكازه، فنهض له أبى واقفا وأفسح الزباين له ليقعد ولكنه لم يفعل والتفت إلى أبى وطلب منه شيئا، فاستمهله هذا فما كان من الجد إلا أن رفع «العكاز» وأهوى به على كتف أبى، فتأوه واختبأ تحت المكتب، وانصرف جدى غاضبا ساخطا يلعن العقوق، وعاد إلى كرسيه فى مدخل البيت.
وكنت أنا حاضرا هذا الذى حدث، فشق على أن أرى جدى يضرب أبى بهذه الهراوة الضخمة، فخرجت إليه فنادانى وأدنانى منه وأجلسنى على حجره وشرع يلاطفنى ويدعو لى، ولكنى كنت مغيظا محنقا فتناولت شعرات من لحيته الكثة وشددتها وفى نيتى أن أنتفها كلها عقابا له، فزجرنى وأدار وجهه ورفع يده له لتخليص لحيته، فبدا لى قذاله فصفعته فطار عقله ودفعنى فارتميت على الأرض ورأيته يميل على هراوته ويتناولها فوضعت ذيلى بين أسنانى وانطلقت أعدو.
وقد ظل جدى شهرا يأبى أن يكلمنى أو ينطر إلى، وأنا أكاد أجن من ثقل الشعور بالحرمان من عطفه، فلما فاءت نفسه إلى الرضى كتب لى حجابا وجلده - حفظا له من التلف - وعلقه على جنبى الأيسر ليقينى الله سوء الأدب، إذا كان قد وقع فى روعه ووقر فى نفسه أن الناس حسدونى فكان منى هذا الذى أسخطه على.
وكان شر ما يمكن أن يعاب به الواحد منا نحن الصبيان، أن يراه أحد واقفا يحدث بنتا أو يلاعبها. يا حفيظ! ولد يلعب مع بنت ... هذا إثم كبير ومعصية توصد من دونها أبواب الغفران، فإنه عيب وسوء أدب وقلة حياء وفساد تربية وأشنع من هذا وأبلغ فى العيب وسوء الأدب أن تلعب البنت فى الشارع أو فى ساحة البيت، ألا تكفيها حجرات البيت التى تطل نوافذها على الطريق وعلى فناء الدار؟ وصحيح أن الشبابيك مسمرة؛ ولكن النظر من الثقوب ميسور وهذا يكفى؟ بل كان من العيب أن يرى الرجل زوجة أخيه إذا كانت غريبة أو من غير قريباته.
وتغرب الشمس فيجمعنا الخادم من الشارع، ويهش علينا كما يهش على الغنم أو الدجاج، ويردنا إلى البيت والحجرات ذات الشبابيك المسمرة مخافة أن يخطفنا أحد إذا بقينا نلعب فى الحارة؛ أو يصادفنا «السماوى» فيميتنا، أو يظهر لنا عفريت فيركبنا أو يرعبنا أو يفعل بنا غير ذلك مما تفعل العفاريت، ويكون الحر شديدا والليل جميل وتزهق أرواحنا فى الغرف المكتومة ونشتهى أن ننعم بالليل والسماء الحافلة بالنجوم الخفاقة اللمعان، ولكن لا سبيل إلى ذلك.
وكانت بنت خادمتنا فى مثل سنى، فكنت أتوق إلى ملاعبتها بعد إذ نهش إلى الغرف فى الليل فتأبى أمى وأمها ذلك علينا وتصرفاننا عنه لأنه عيب، وتجر الخادمة بنتها إلى حجرتها - تجرها من أذنها وتشد عليها وتقرصها وقد تضربها علقة، وتجرنى أمى فى يدى أو من شعرى إذا حزنت، أو تحملنى وأنا أضرب بيدى ورجلى من الهواء وأصرخ وأصيح وترقدنى برغم أنفى على السرير وتغطينى باللحاف وتروح تحدثنى عن العفاريت وتصف لى ما تصنع بالأطفال الذين «لا يسمعون الكلام» ولا يفعلون ما يؤمرون، وتروى لى قصصا يقف لها شعر الرأس ويتقبض الجلد عن «المريرة المؤتزرة» و«أبى رجل مسلوخة» وغيرهما وغيرهما فأتضاءل ويدخل بعضى فى بعض، وتهم بأن تتركنى وقد اطمأنت إلى سكونى ووثقت أنى غير مفارق فراشى فى ليلتى تلك، فأصيح بها وأناديها وأدعوها أن تبقى إلى جانبى لأن «اللحاف» يحدق فى بعينين تقدحان شررا، أو لأن دهان الحائط يبدو لى عليه رسم يشبه ما سمعت من أوصاف أبى رجل مسلوخة فأنا أخاف أن يتجسد ويخرج من الجدار ويميل على بأسنانه وأظافره.
وبعد لأى يغلبنى النعاس فأنام وأنا أحلم بالعفاريت والإمساخ والليل المخوف والنهار الذى يعيد الطمأنينة، والسلالم المظلمة وما يختبئ لى عندها، ولم تكن أحلامى تخلو من متع منغصة، وما أكثر ما رأيت فى منامى أنى لاعبت هذه أو تلك من البنات وأن أهلى دهنونى بالسمن والعسل وقيدونى ورمونى فى ركن حالك السواد وتركونى للحشرات وغيرها من المؤذيات والمرعبات.
صفحة غير معروفة