سألنى «بعضهم»: هل تعتزل الناس، أو تروم أن تعتزلهم، لأنك مللت الحياة، وزهدت في العيش؟ أو أنت تفعل ذلك لأنك لا تأنس من نفسك القدرة على خوض الغمار، ومصارعة التيار، أي لفتور عراك وضعف أدركك؟
وليست هذه ألفاظ السائل، فقد نسيت الموضع الذى كنت أدخر فيه رسالته إلى أوان الرد عليها، والنسيان آفتى التي تكاد تذهب بلبى فإنى أنسى كل شىء إلا أنى أكلت، وما أذكر الشبع إلا بما أعانيه من كربة الثقال، وأحسب أنه - وأعنى النسيان، لا الشبع - هو الذى حمانى أن أحب وأعشق، وكيف بالله يكون حب من يمسى عاشقا ويصبح ساليا؟
أى والله، وإن الحسن لفتنة، وإن القلب ليصبوا.
ولكنى أنسى أني صبوت. وتطير من رأسى الأسماء والأحاديث، كما تطير العصافير عن أعشاشها.
وقد اتفق لى أن خرجت يوما بالسيارة وحدى إلى آخر مصر الجديدة، فأوصدت أبواب السيارة وذهبت أتمشى في الحدائق الممتدة إلى حدود الصحراء، وكنت مطرقا أنظر إلى الأرض وأنا أخطو، وكان بالى إلى الفرق بين وقع قدمي - قدم رجلى السليمة، وقدم رجلى المهيضة - وإلى مسافة الزمن التى يستغرقها الخطو بكل منها وأيهما أثقل وأبطأ فيما أحس وأرى.
وكان الداعى إلى هذا أنه خطر لى أنى مخطئ فى اجتناب الرقص، وأنه عسى أن تسعفنى ساقى المهيضة ولا تعبأ بالحركة الخفيفة السريعة المطلوبة فلا يبقي موجب للصبر على هذا الحرمان ومسوغ لتوطين النفس عليه، وأنا أحب الرقص، ولكنى لا أحب أن أكون حجر طاحون، وأخشى أن تخذلنى ساقي، فأتلكأ وأبطئ، أو دوس قدم التى أراقصها وأدور بها، وأخجل أن أجرب قبل أن أتبين وأستوثق، وإنى لهكذا وإذا بي أصدم بفتاة داخلة من بعض أبواب الحديقة، فاتقيت الوقوع بإسناد كتفى إلى كتفيها، واتقته هى براحتيها على صدرى وأفقنا فشرعت أعتذر، فقاطعتنى وقالت «أهو أنت»؟
فابتسمت وقلت «ليس عندى أدنى شك فى أنى أنا، فهل يكفيك هذا الجواب؟ إنه على كل حال من نوع السؤال».
قالت «إنما أعنى أن هذه مصادفة عجيبة. أين كنت كل هذا الزمن»؟
فتأملتها، وأطلت التحديق فى وجهها الصابح، ولكن رأسى لم يختلج فيه شىء. فهززت رأسى وقلت «كل هذا الزمن؟ هل؟ هل أقص عليك تاريخ حياتى من البداية»؟
قالت «ألا تذكر»؟
صفحة غير معروفة