وكان السيد محمد هذا قويا، وقد احتفظ بقوته حتى في شيخوخته العالية، فقد جاوز التسعين أو قارب المائة. ولم يركب فى حياته قطارا ولا تراما ولا مركبة. وكان إذا زارنا فى القاهرة يجىء على قدميه، وعلى كتفه الخرج الذى فى شق منه ثيابه، وفى الشق الثانى هدية من التمر أو الجبن «الحلوم» أو غير هذا وذاك مما يرى أن يهديه إلينا. وكان أبى قد رزق قبلى بولدين. ماتا. فلما جئت أنا إلى الدنيا، خاف أبواى أن أموت أيضا. وصارا يجزعان كلما أصابنى برد أو غيره. وأنى لهما أن يعلما الغيب وأن يعرفا أنى ممن قيل فيهم إن «عمر الشقى بقى» واتفق أن جاء هذا الجد المبروك فاستكتبوه لى حجابا، فخطط شيئا فى ورقة، أو كتب آيات من القرآن الكريم. لا أدرى وطواها وأمر بها أن تغلف ونهى عن فتحها. وقال: علقوها له جنبه. فغلفوها فى قماش للتنجيد - أى لكسوة المراتب - وبعثوا بها إلى حذاء. ولم يكن حذاء فى الحقيقة. وإنما كان رجلا يصنع المراكيب فجلد الحجاب، وجعل له عينين للحيط. وعلقوه لى فصار كالحجر فيما أحس حين أرقد على جنبى.
ولم يفارقنى هذا الحجاب إلا بعد أن انتقلت جدتى إلى رحمة الله. حتى بعد أن كبرت ودخلت فى مداخل الرجال وتزوجت، كانت تصر على لبسه. وكنت أغافلها وأخلعه وأدسه تحت الوسادة. فإذا عرفت ذلك نظرت إلى نظرة أسف وعتاب وإشفاق. وكان لبس الحجاب يثقل على نفسى وكنت أنفر من ذلك نفورا شديدا. ولكنى كنت أقول لنفسى إن جدتى كبيرة السن وإنها فجعت فى ابنها وأنها تجزع كلما خطر لها أنها قد تفجع فى حفيدها الذى تتعزى به. فماذا على لو أرضيتها وسررتها وتركتها تقضى ما بقى من عمرها فى راحة واطمئنان. ثم إنى ما أحببت أحدا قط مقدار حبى لها ولأمى فكنت أشعر أن قلبى تعصره يد قوية غليظة حين أرى على وجهها آيات الفزع. ومن أجل هذا استخرت الله وتوكلت عليه وتركتها تفرح وتطمئن بالحجاب على جنبى. وكانت إذا رأتني مقبلا عليها لتحيتها كالعادة تبتسم لى بفمها الأدرد، وتمد يدها إلى جنبى لتتحسسه، فأضحك وأقول: «لا تخافى» إنه ما زال فى مكانه. وما أبقيه إلا لأنه يسرنى أن أراك راضية قريرة العين «فتمسح لى رأسى وتدعو لى بخير».
فلما ماتت، تركت الحجاب. وكانت أمى تقوم فى أول الأمر مقامها في الإلحاح على أن أحتفظ به فقلت لها يوما: «يا ستى. أنك عاقلة، فبينى لى لماذا ينبغى أن ألبس هذا الحجاب».
قالت: «إنه بركة من جدك».
قلت: «صدقنا وآمنا. وأنعم بجدى وأعظم ببركته! ولكن ما جدوى أن أضع حجرا.»
فأطرقت فقلت: «أنا أعلم أنك تخجلين أن تقولى إنه يقينى السوء ويحمينى من الموت لأنك أعقل وأذكى من ذلك. أليس الرب واحد والعمر واحد. أليس ما قدر يكون»؟
قالت: «آمنت بالله».
قلت: «كنت أعلم أنك ستوافقين على اطراح هذا الحجاب. ولكنى أحب أن احتفظ به للذكرى فاحفظيه لى عندك».
فأخذته، وبقى عندها مصونا حتى ماتت فقيل لى أنهم وجدوا حجابا بين أشيائها. وسألونى ماذا يصنعون به.. فأوصيت به أن يحفظوه فإنه أثر له تاريخه الطويل وصلته الوثيقة بأقوى العواطف الإنسانية ففعلوا، ولكنى لم أطلب أن أراه، والحق أقول إنى لم أقو على النظر إليه يومئذ. فقد كان موت هذه الأم الصالحة أوجع ما أصابنى فى حياتى وأعمقه أثرا فى نفسى، ولقد أبيت إلا البقاء فى البيت الذى وافاها الأجل فيه، لأن كل مافيه يذكرنى بها ولكنى كدت أجن، فقد كنت أتشدد وأظهر الجلد، ولكنى كنت أراها فى كل مكان، وأبصرها تروح وتجىء وأسمع صوتها، فكأنها لم تمت وإن كان غيرى لايعرف ذلك ولا يفطن إليه، وتلفت أعصابى فكانت هذه الخيالات تسرنى أحيانا، وأحيانا أخرى تفزعنى فأضطرب وأرتعد، وثقلت على وطأة الهواجس والوساوس وطال الأمر فلم أر علاجا أحسم به هذا البلاء إلا أن أفارق البيت، وأنأى بنفسى عن مواطن الذكرى ومثارها على قدر الإمكان، وأقول على قدر الإمكان لأن المرء يستطيع أن يهرب من بيت أو بلد ولكن أنى له أن يهرب من نفسه؟
الفصل الثامن
صفحة غير معروفة