، ولد قريبا من مدينة «نانت» سنة 1079م، فلما شب أخذ ينتقل من مدرسة إلى مدرسة مدفوعا بما جبل عليه من شغف ملح بالتحصيل وطلب العلم، ثم لم يلبث أن قصد باريس، ليظفر بالتتلمذ على أستاذها الأشهر وليم شامبو، فما كاد ينخرط في سلك مدرسته، حتى نهض يقاوم أستاذه مقاومة حادة عنيفة انتهت بزوال شامبو وتربع تلميذه في منصب الأستاذية الذي كان يشغله، وما زال أبيلارد يعلو حتى أصبح أستاذ أوروبا غير مدافع.
وقف أبيلارد موقفا وسطا بين المذهب الواقعي والمذهب الاسمي، وقرر أن الكلي ليس له وجود منفصل عن الجزئيات، بل هو حال فيه لا باعتباره جوهرا واحدا ممثلا في الأفراد، ولكن باعتباره حقائق متعددة بتعدد الأفراد. وقد أنكر أن يكون الكلي مجرد اسم، بلى هو يحمل من المعاني ما يستمده من المقارنة بين ما تأتينا به الحواس من إدراكات جزئية.
ولعل أبرز جوانب أبيلارد هو تلك النزعة القوية الجريئة نحو تحرير العقل من ربقة العقيدة، فزعم أن العقيدة لا تستطيع أن تحيا حياة مدعمة قوية بغير علم ومعرفة، وقد أهاب بقومه أن يتخذوا من العقل دليلا أهدى دليل، فليتركوا زمام أمرهم في يده يسير بهم أنى شاء، دون أن يحدوا منه أو يقاوموه، حتى لو ذهب بهم إلى معارضة الكنيسة نفسها.
كذلك كان له في التفكير عن المسيح رأي شذ به عن التقليد المعروف، فقد سخر من الفكرة الشائعة حينئذ بأن عفو الله ورحمته لا يكونان إلا بهذه الآلام المبرحة التي تعرض لها ابنه المسيح، فليست حياة المسيح وموته وما لاقى في ذلك من تعذيب سبيلا لاسترضاء الله، واستنزال عفوه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسر من ذلك وأقرب، إنما لاقى المسيح ما لاقى إعلانا لما يكنه قلبه من حب الله، عسى أن يثير في الناس عاطفة الشكر وعرفان الجميل ، فيعيدهم إلى طاعة الله.
وقد اتهم أبيلارد بالخروج على مألوف العقيدة، فانعقد لمحاكمته مجلس في سنس
Sens
سنة 1141م، وقضى بإحراق كتابه «التثليث» وأمر به فحبس في دير حتى وافته منيته سنة 1142م. ومما يستحق الذكر عن أبيلارد أنه حين أراد مهاجمة السفسطة الكلامية الفارغة التي أغرم بها المدرسيون نشر لذلك كتابا سماه «نعم ولا» جمع فيه آراء آباء الكنيسة؛ لكي يبين للناس في وضوح وجلاء ما في أقوالهم من تناقض وخلاف. (5) كان أبيلارد من غير شك سابقا لعصره فيما أعلن من وجوب الاعتزاز بالعقل، وما يؤدي إليه، فكان طبيعيا أن يتصدى لنقده ومعارضته كثيرون، لعل أقواهم حجة وأبعدهم نفوذا وصوتا هو برنارد كليرفو
Bernard of Clairvaux (1091-1153م) فقد أنكر على أبيلارد هذا الشذوذ وتلك الإباحة الفكرية التي أجازها لنفسه، وصاح في الناس يحذرهم من ذلك الخطر الداهم فيما يدعو إليه أبيلارد، ذلك المأفون الأحمق الذي يحاول أن يتغلغل بعقله إلى أسرار الدين، وأن يعلو برأيه على ما تواضعت عليه الكنيسة، وألفه الناس من تعاليم.
أما برنارد هذا فلا يتطلب من الإنسان إلا الورع والتقوى، وهو لا يحارب في تحصيل العلم والمعرفة، ولكن على أن يكون الشعور هو السبيل إليها. ويرى برنارد أن هناك طرقا ثلاثا للوصول إلى الحقيقة الإلهية: الأولى بواسطة العقل، وذلك مستحيل ما دام الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فهي فوق مقدوره ومستطاعه. والثانية هي الظن، ولكن ذلك حدس لا يغني عن اليقين. والثالثة هي العقيدة، وهي وسط بين العقل والرأي، فهي تنبع من القلب والإرادة معا، وفي مكنتها أن تتنبأ بالعلم الذي سيتضح للعقل في نهاية الأمر.
ومهما يكن من أمر برنارد، فقد كان عبقريا ممتازا آتاه الله كثيرا من المواهب، فكان غزير العلم، طلق اللسان قوي البيان، ثم كان فوق ذلك كله تقيا ورعا، فمن أجل ذلك كله كان شخصية بارزة في تاريخ الفكر في العصور الوسطى. (4) العصر المدرسي الأرسططاليسي
صفحة غير معروفة