وفي هذه المرحلة ترى «شلنج» يكمل مذهب «فخته» في الذات، بأن يبين أن الطبيعة بأثرها يمكن اعتبارها وسيطا ترتفع به الروح إلى مرتبة إدراك نفسها، وبذلك تكمل المثالية الموضوعية المثالية الذاتية.
ففي هذه الفترة يبدأ «شلنج» في مخالفة «فخته» بتكوين فلسفة جديدة، خلاصتها أن الطبيعة ليست أقل من العقل في أنها صورة تتجلى فيها الذات المطلقة. فالمادة والعقل كلاهما جانبان لوحدة أسمى، إذ الطبيعة روح مرئية والروح طبيعة خفية، والأولى تكمل الثانية. فالذات ترى نفسها في الطبيعة، كما تدرك الطبيعة نفسها في الروح (أي الذات أو النفس أو العقل)، فلو تأملت صنوف المادة لرأيت كل شيء فيها يرمز إلى الروح، وكل نبات وكل حيوان مهما دنت مرتبته في سلم الكائنات هو في حقيقة أمره خفقة روحية قد وجدت سبيلها إلى الخارج، بل الكون بأسره عبارة عن كائن عضوي واحد يقع في مراتب تختلف علوا وسفلا، والغرض من الطبيعة هو أن تبرز فيها الروح وتتجلى، وهي إنما تصل إلى ذروتها في الإنسان، ومعنى ذلك كله أن الطبيعة والروح جانبان لحقيقة واحد. ومن أجل هذا يرى «شلنج» أن معرفة الإنسان تتألف من الفلسفة والفيزيقا «الطبيعة»، فالأولى تبدأ دراستها بالبحث في الفكر، ثم تحاول أن تخلص منه إلى الطبيعة، والثانية تبدأ سيرها من الطبيعة لتشق طريقها صعدا إلى الفكر المطلق. (أ)
أما فلسفة الطبيعة، فتصور لنا العالم العقلي فيما نراه في عالم الظواهر الطبيعية من أشكال وقوانين، وإذن فموضوع تلك الفلسفة الطبيعية هو أن تستمد صورة العقل من الطبيعة.
والطبيعة في فاعلية دائمة ونشاط متواصل، وكل ما ترمي إليه هو الحياة، ولكنها تسعى إلى الحياة الكاملة، ولذا ترى العقل المبثوث في ظواهر الطبيعة يجاهد؛ لكي يصعد من صورة مادية دنيا إلى صورة أعلى فأعلى، حتى تبلغ إلى مرتبة الكائن العضوي الذي يتمكن فيها من الإدراك، ويقسم «شلنج» فلسفته الطبيعية إلى أجزاء ثلاثة: (1)
الطبيعة العضوية. (2)
الطبيعة اللاعضوية. (3)
التبادل بين الطبيعتين.
أما الطبيعة العضوية ففاعلية لا نهائية، وهي عبارة عن قابلية للإنتاج لا تنتهي، ونتيجة هذه الفاعلية المنتجة هي تكون مخلوقات نهائية (هم الأفراد طبعا)، ولكن الطبيعة لا تعنى بهؤلاء الأفراد عنايتها بالجنس كله، وهي في فاعليتها المنتجة تحاول - ما وسعها الجهد - أن تسمو فيما تنتج من صور، وأهم ما يميز الطبيعة العضوية التناسل والشعور، وكلما رجحت كفة الشعور في الكائن علت منزلته في سلم الكائنات.
وأما الطبيعة اللاعضوية فتدأب على معارضة الطبيعة العضوية ومقاومتها، وبينما تنتج هذه فلا إنتاج لتلك، فهذه الأخيرة كتلة من المادة يمسك بعضها إلى بعض عوامل خارجية.
ولكن لما كانت الطبيعة العضوية والطبيعة اللاعضوية لا يمكن لإحداهما أن توجد مستقلة عن قرينتها، فهما متصلتان تؤثر الواحدة في الأخرى، هذا وإنهما لا بد أن تكون الاثنتان كلتاهما قد صارتا عن أصل واحد مشترك، هو مبدأ الحياة أو هو نفس العالم الذي تتلاشى فيه أوجه الخلاف بين الطبيعتين. (ب)
صفحة غير معروفة