نقد العقل العملي
The Critique of Practical Reason
إذا كان الدين لا يمكن أن يقوم على أساس من العلم والعقل، فماذا عسى أن يكون الأساس الذي يبنى عليه؟ يجيب «كانت» إنه يجب أن يرتكز على دعامة من الأخلاق؛ لأنك إن أقمت بناءه على عمد من اللاهوت العقلي عرضته - كما قدمنا - لأخطر الأخطار، فلنترك العقل هنا ولنشيد الإيمان على ما هو فوق العقل، على الأخلاق، ولكن يجب أن تكون قاعدة الدين الأخلاقية مطلقة مستقلة بذاتها، غير مستمدة من التجربة الحسية المعرضة للشك، وألا يفسدها العقل ببحوثه وقضاياه، يجب أن تستمد القاعدة الأخلاقية من باطن النفس مباشرة، وإذن فلا بد أن تكون لدينا مبادئ أخلاقية فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته فيستلهمها ويستوحيها دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلى علم أو تجربة، فكما أثبتنا أن للرياضة مثلا أساسا فطريا في النفس يقضي بصحتها، فسبيلنا الآن أن نبين أن العقل الخالص يمكنه بطبيعة تكوينه أن يقود الإرادة، وأن يهديها إلى أقوم السلوك من غير أن يستنير في ذلك بشيء خارجي محسوس، أي أن نبين أن قانون الأخلاق ناشئ فينا قبل التجربة، وأن الأوامر الأخلاقية التي لا مندوحة عنها لتكون قاعدة للدين عامة مطلقة مستمدة من فطرة الإنسان.
وإن تجارب الحياة لتنهض دليلا قويا على وجود هذا الباعث الفطري للأخلاق، فكلنا يشعر شعورا قويا واضحا لا لبس فيه أن هذا العمل خطأ، وأن ذلك صواب، مهما اشتدت أمامنا دواعي الإغراء، نعم قد يستسلم الإنسان للخطأ، ولكنه لا يسعه رغم ذلك إلا أن يشعر بأنه مخطئ، فقد أرتكب الجريمة، ولكني مع ذلك أعلم أنها جريمة، وأحس في نفسي بعزم على ارتكابها مرة أخرى، فما ذلك الصوت الذي يصيح فينا صيحة التأنيب، ثم يدعونا إلى اعتزام السلوك على النحو الصواب، إنه الضمير الذي لا ينفك يأمرنا أن نعمل على نحو يصح أن يكون قانونا عاما للبشر، أعني أن نسلك سلوكا لو سلكه الناس جميعا لأدى إلى الخير، فنحن نعلم - لا بالمنطق - ولكن بشعورنا القوي المباشر أننا يجب أن نتجنب السلوك الذي إن اتبعه الناس جميعا تعذرت الحياة الاجتماعية أو تعسرت، إنني قد أتورط في كارثة، ولا يكون لي سبيل للنجاة منها إلا بالكذب، وقد أكذب طلبا للنجاة، ولكني «بينما أريد لنفسي الكذب، فإنني لا أحب بحال من الأحوال أن يكون قانونا عاما؛ لأنه بمثل هذا القانون ستنتفي الوعود.» وهذا لا يتفق وحياة الجماعة. ولذا فإني أحس في نفسي أنه لا يجوز أن أكذب حتى ولو كان الكذب في صالحي.
وهذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا لا يقيس خيرية العمل بما ينتج عنه من نتائج طيبة، أو بما فيه من حكمة، إنما الخير هو ما جاء وفقا لما يأمر به الواجب، بغض النظر عن نتائجه وحكمته، ولا غرابة فهو لم يستمد من التجربة الشخصية، ولكنه فطري طبيعي فينا، فلا خير في الدنيا إلا إرادة الخير، وأقصد بها تلك الإرادة التي تجيء وفقا لقانون الأخلاق المتأصل في نفوسنا، ولا عبرة لما تعود به تلك الإرادة الخيرة علينا من غنم أو غرم؛ إذ ليس الغرض الأسمى هو السعادة، وإنما هو الواجب «فليست الأخلاق هي ما يعلمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، ولكن هي ما يجعلنا جديرين بالسعادة.» فيجب أن نقصد إلى سعادة الناس، فلننشد الكمال، سواء جاء ذلك الكمال متبوعا بلذة أو ألم، ولكي يكون سلوكك مؤديا إلى كمال نفسك وسعادة الآخرين يجب «أن تعمل بحيث تتخذ الإنسانية - سواء أكانت ممثلة في شخصك أو في أي شخص آخر - غرضا، ولا يجوز لك قط أن تعتبر الإنسانية وسيلة فقط.» يجب أن يكون هذا المبدأ أساسا لحياتنا، فإن فعلنا فسرعان ما نخلق لأنفسنا مجتمعا مثاليا كاملا، ولا سبيل إلى خلق ذلك المجتمع الكامل إلا أن نعمل كما لو كنا بالفعل أفرادا فيه، وبهذا نضع قانونا كاملا في حياة ناقصة فتكمل. قد تقول إنها أخلاق شاقة عسيرة - تلك التي تريدك على وضع الواجب فوق السعادة - ولكنها هي الوسيلة الوحيدة التي ترتفع بنا عن هذه الحيوانية التي نعيش فيها، وتسير بنا في طريق الله.
وجدير بنا أن نلاحظ أن هذا الصوت الباطني الذي ينادي بالواجب يقوم دليلا على حرية إرادة الإنسان؛ لأنك لا تستطيع أن تتصور فكرة الواجب دون أن تتصور الإنسان حرا فيما يختار من سلوك. فحرية الإنسان التي استعصى علينا إقامة الدليل عليها بالعقل النظري يمكن البرهنة عليها بالشعور بها شعورا مباشرا إذا ما وقف الإنسان موقف الاختيار بين سلوكين. ولقد يظهر لنا أن أعمالنا تتبع قوانين ثابتة لا نقض فيها ولا تبديل، فنتوهم أن ذلك برهان على عدم اختيار الإنسان لسلوكه، والواقع أننا نرى أعمالنا منظمة مطردة؛ لأننا ندرك نتائجها بواسطة الحواس، وقد علمنا أن العقل مجبول على صياغة كل ما تنقله إليه الحواس في صورة السببية، فيجعل منها علة ومعلولا، ولكن هذه السببية من صنع عقولنا، وليست في الأشياء أو الأعمال ذاتها. وبديهي أنها فوق القوانين التي نصنعها بأنفسنا؛ لكي نستعين بها على فهم تجاربنا الحسية، فالإنسان حر فيما يعمل رغم ما يقيد الأعمال من سببية ظاهرة، ونحن نشعر بهذه الحرية، ولا يمكننا أن نقيم عليها الدليل.
وكما استنتجنا حرية إرادة الإنسان من صوت الواجب الذي فطرنا عليه، كذلك نستطيع أن نستنتج منه خلود الإنسان، فنحن نشعر بهذا الخلود، ولكن لا يمكننا أن نقيم عليه الدليل، إن الحياة تعلمنا كل يوم درسا بل دروسا بأنه لا عقاب للمسيء ولا ثواب للمحسن، بل إنها تعلمنا كل يوم بأن افتراس الثعبان أنجح في هذه الدنيا من رقة الحمامة ووداعتها. وأن السرقة والخيانة والغدر كثيرا ما تكون أجدى من الفضل والأمانة والإحسان، فلو كان مجرد النفع الدنيوي والوصول إلى الغاية هو كل ما يبرر الفضيلة، لما كان من الحكمة أن نكون فضلاء ... ولكنا نرى أننا على الرغم من هذا كله نشعر بصوت يدعونا إلى الفضيلة وعمل الخير، حتى ولو لم يؤد ذلك إلى النفع، فكيف يمكن لهذا الشعور بالحق أن يعيش إن لم نكن نحس في قرارة نفوسنا أن هذه الحياة الدنيا ليست إلا جزءا من الحياة، وأن هذا الحلم الدنيوي ليس إلا مقدمة لميلاد آخر وبعث جديد. لماذا نستمع لصوت الحق والفضيلة إن لم نكن نحس بأن تلك الحياة الأخرى أطول أمدا، وأن كل امرئ سيجزى فيها بما فعل من خير أضعافا مضاعفة؟
وهذا الدليل نفسه الذي أثبت حرية الإنسان وخلوده ينهض برهانا على وجود الله ؛ لأنه إذا كان الشعور بالواجب يتضمن العقيدة في الجزاء في المستقبل أي في الخلود، فإن الخلود لا بد أن يتبعه فرض وجود علة متكافئة مع معلولها، أي لا بد أن يكون قد أنشأ هذا الخلود من هو خالد، وإذن فلا بد من التسليم بوجود الله، وليس هذا كذلك برهانا بالعقل، بل هو مستمد من شعورنا الفطري بقانون الأخلاق، ويجب أن يوضع هذا الشعور فوق المنطق النظري الذي لم ينشأ إلا لمعالجة الظواهر الحسية. إن عقولنا تبيح لنا أن نعتقد أن وراء الأشياء إلها، وشعورنا الأخلاقي يحتم علينا هذه العقيدة، ولقد أصاب «روسو» حين قال: «إن شعور القلب أسمى من منطق العقل.» كما أصاب «بسكال» في قوله: «إن للقلب أسبابا خاصة به لا يمكن أن يفهمها العقل.» (4) الدين والعقل
لم يكن «كانت» فيما انتهى إليه من إثبات الدين على أساس الشعور بالواجب الأخلاقي رجعيا أو جبانا، بل كان على النقيض من هذا جريئا بالغ الجرأة في إنكاره أن يكون الدين قائما على العقل، ولقد أثار ما ذهب إليه - من حصر الدين في حدود الشعور - كثيرا من رجال الدين في ألمانيا، فانهالوا عليه بالنقد والاحتجاج. ولقد تطلبت هذه العاصفة من الفيلسوف شجاعة نادرة بلغت أقصاها حين نشر وهو في سن السادسة والستين كتابه «نقد الحكم»، ثم كتابه الذي أصدره وهو في سن التاسعة والستين «الدين في حدود العقل الخالص».
وهو في أول هذين الكتابين يرفض الرأي القائل بأن وجود غاية يقصد إليها العالم دليل على وجود الله. فإذا كانت الطبيعة حقا تبدو رائعة الجمال في كثير من نواحيها - مما قد يحملنا على أنها تسير إلى قصد معين مدبر - فينبغي أن نذكر أنها من ناحية أخرى تبدي كثيرا من دلائل العبث والفوضى ... نعم إن في الطبيعة جمالا، ولكن على حساب كثير من ألوان التعذيب والموت، إذن فظاهر الكون وإن بدا جميلا فليس هو بالبرهان القاطع على وجود الله، فعلى رجال اللاهوت الذين يعتمدون في دليلهم على هذه الفكرة أن ينبذوها، كما أن على رجال العلم الذين بالغوا في نبذها واطراحها أن يستردوها؛ لأنها مع ذلك مفتاح جليل يؤدي إلى كشف كثير من الجوانب الغامضة. فلا شك أن في العالم قصدا وتصميما، ولكنه قصد وضعه الكل لأجزائه. فما أحوج رجال العلم أن يفسروا أجزاء الكائن العضوي بأن لها معنى يقصده الكل، وهم إن قالوا ذلك أنقذوا أنفسهم من هذه المغالاة في فكرتهم عن آلية الحياة؛ لأن هذه الآلية وحدها يستحيل أن تفسر نمو برعمة واحدة من النبات.
صفحة غير معروفة