قصة الفلسفة الحديثة

زكي نجيب محمود ت. 1414 هجري
53

قصة الفلسفة الحديثة

تصانيف

وما دمنا قد رفضنا الآراء الفطرية، وأنكرنا أن تكون واحدة مما تحوي عقولنا موروثة، فمن أين جاءت لنا المعرفة، وما مصدر آرائنا؟ هذا هو موضوع الباب الثاني، وفيه يقول لوك: «لنفرض أن العقل صفحة بيضاء لم يخط عليها حرف ولا فكرة، فكيف تمتلئ هذه الصفحة الناصعة؟ جواب ذلك عندي كلمة واحدة هي «التجربة»، فمن التجربة ينشأ علمنا كله، وعنها يتفرع.» ولكن ماذا يعني «لوك» بكلمة «التجربة» التي هي قوام المعرفة كلها؟ يقول في ذلك: «إن ملاحظتنا للأشياء الخارجية المحسوسة، وللعمليات العقلية الباطنية، الأولى بالإدراك الحسي، والثانية بالتأمل الباطني، هي التي تمد عقولنا بجميع أفكارها. فهما (أي الإحساس والتفكير) الينبوعان اللذان منهما تتدفق المعرفة التي يصدر منها كل ما لدينا، بل كل ما يمكن أن يكون لدينا من أفكار.» وإذن فالتجربة عند «لوك» ذات شعبتين: فهي تجربة تستمد إما بالإحساس أو بالتأمل الباطني ... ولكنه يقول إن الحواس تعمل أولا، فتقدم إلى العقل طائفة من الأحاسيس، ثم يجيء بعد ذلك التأمل وما ينشأ عنه من أفكار «هذان وحدهما - على ما أعلم - هما النافذتان الوحيدتان اللتان ينفذ منهما الضوء إلى هذه الحجرة المظلمة، وأقول المظلمة لأنني أظن العقل شبيها بقاعة مغلقة لا ينفذ إليها الضوء.» ومن ذلك ترى أنه يعتقد أن العقل شيء قابل منفعل ليس إلا، فلا يسعه إلا أن يدرك ما تقدمه إليه أعضاء الحس، أما هو نفسه فعاجز كل العجز أن يخلق بنفسه أفكارا غير التي تمده به الحواس، كما أنه عاجز أن يمحو شيئا مما يتكون فيه من أفكار، هو عاجز عن هذا وذاك عجز الإنسان عن خلق ذرة واحدة أو إعدامها. فالعقل عند «لوك» لا يزيد على مرآة تنطبع فيها صور الأشياء التي تعرض له، ولكنه بعدئذ يعود فيعترف له بشيء من الفاعلية يسير؛ إذ يقول إن العقل حينما يتقبل المواد الأولية التي يقدمها له الإحساس والتأمل الباطني يكون لملكاته من القوة ما يستطيع به أن يجمع أشتات الآثار المتفرقة التي جاءت بها هذه الحاسة أو تلك، فيركب منها أفكارا مركبة. وبهذا يكون العقل قوة إيجابية تتناول ما ينطبع في صفحة الذهن من آثار، ويؤلف منها أفكارا، ولكن «لوك» يسرع بملاحظة أن هذه قوة صورية محضة؛ لأنها لا تضيف شيئا جديدا إلى مادة الأفكار التي أتت إلى العقل من الخارج، ولكن مهما قيل فيها فهي قوة فاعلة على كل حال. ومما يلاحظ هنا أن هذا القول من «لوك» بتعاون العقل مع عناصر التجربة الآتية من الخارج في تكوين أفكارنا وتأليفها، هي الخطوة التمهيدية التي كملت فيما بعد في فلسفة «كانت».

الباب الثالث؛ تبويب الأفكار:

لقد علمنا مما سبق أن جميع أفكارنا تنشأ من أحد مصدرين: إما الإحساس أو التفكير، ونريد الآن أن نتناول أفكارنا بالتبويب والتقسيم، فهي كلها على تباينها واختلافها تقع في مجموعتين: أفكار بسيطة وأخرى مركبة. (1) أما الأفكار البسيطة فهي ما أتى إلى العقل من الخارج: وقد تأتي عن طريق حاسة واحدة، كاللون عن طريق البصر، والصوت عن طريق السمع، والصلابة عن طريق اللمس. أو قد تكون آتية من عدة حواس مشتركة، كالامتداد والشكل والحركة، أو قد تنشأ من التفكير وحده دون الحواس، كالشك والعقيدة والإرادة. أو قد تكون مما يتعاون في تأليفه التفكير والحواس معا، كالسرور والألم ... ويرى «لوك» أن فكرتي المكان والزمان هما أيضا من الأفكار البسيطة، ففكرة المكان تأتي بواسطة البصر واللمس، كما تنشأ فكرة الزمان من تعاون مصدري المعرفة معا: الحواس والفكر، فندركه بالتأمل في تعاقب مشاعرنا وأفكارنا في العقل، كما ندركه في تتابع الأحداث والأشياء بواسطة الحواس، وهنا يستطرد «لوك» فيعقد مقارنة بين فكرتي المكان والزمان، فيقول إنهما يتلاقيان في أن كليهما لا متناه غير محدود، ويتفارقان في أن المكان يمتد في عدة اتجاهات، أما الزمان فلا يمتد إلا في اتجاه واحد فقط. (2) وأما الأفكار المركبة فيقول عنها لوك: «إذا ما امتلأ العقل بهذه الأفكار البسيطة، كان له من القوة ما يستطيع به أن يستعيدها ويستثيرها، وأن يقارن بينها، ثم يؤلف من أجزائها أفكارا لا نهاية لاختلافها وتنوعها، وبهذا يمكنه - متى شاء - أن ينشئ أفكارا مركبة جديدة.» وهذه الأفكار المركبة نفسها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أعراض، وجواهر، وعلاقات. أما الأعراض فهي الأفكار المركبة التي تؤلفها عقولنا من أشتات الأحاسيس كما تؤلف الجمل من الكلمات، فهي لا تطابق - بعد تكوينها - شيئا من الحقيقة الواقعة في الخارج، أعني أن هذه الأفكار ليس لها وجود مستقل عنا، وإلى هذا القسم تنتمي كل الإدراكات الكلية، وبعبارة أخرى كل الكلمات الكلية، مثل شجرة وكتاب وقلم (ما عدا أسماء الأعلام وأشباهها). وهنا يقول «لوك» إن كثيرا من أخطائنا راجع إلى أننا ننسى أن ألفاظ اللغة تدل على مدركات عامة تكونت داخل العقل، ولا يقابلها أشياء حقيقية في الخارج.

وأما الجواهر فهي الأفكار التي تقابل الأشياء الحقيقية الموجودة في الخارج، والواقع أننا نجهل حقيقة هذه الأشياء في ذاتها، ولسنا نعرفها إلا بواسطة هذه الأفكار التي نسميها بالجواهر، فالجوهر شيء مجهول لنا نجمع حوله مجموعة من الصفات الجزئية التي تأتي بها الحواس، فأنت تعرف عن البرتقالة مثلا لونها جاءتك به العين، وملمسها جاءتك به الأصابع، ورائحتها جاءك بها الأنف، وما إلى هذه من سائر الأفكار البسيطة، ولكن الشيء الحقيقي الذي أخذت تضيف إليه هذه الصفة وتلك، حتى تكونت في ذهنك البرتقالة مجهول، فكل علمك عن البرتقالة هو «مجموعات الأفكار البسيطة التي فرضنا إلى جانبها وجود شيء (أمر جوهر) تتعلق به وتستقر فيه».

والنوع الثالث من الأفكار المركبة هو فكرة العلاقة التي تحدث في الذهن بين فكرة وفكرة، بحيث يكون للواحدة قوة استدعاء الأخرى.

الباب الرابع؛ علاقة العقل بالعالم الخارجي:

إن «لوك» حين يزعم أن كل ما تحوي عقولنا من أفكار، بما فيها أفكار الزمان والمكان وما إليها، قد نشأ من أحد مصدرين هما الإحساس والفكر، كأنه جعل الإنسان مقياس الحقيقة كلها؛ إذ أصبحت الحقيقة على يديه هي ما يكونه الفرد بعقله، وإذن فكل ذات مستقلة بنفسها تفكر وحدها، ولا يتصل عالم الأشياء الخارجية بعلم الإنسان إلا بما يكونه هذا عنه من أفكار يحصلها بقوتي إحساسه وفكره، وهو بهذا الرأي يعارض «سبينوزا» الذي نادى بأن الأفراد ليسوا حقائق مستقلة، بل هم أعراض لحقيقة واحدة.

ويرى «لوك» أن هناك ضربين من الصفات التي تميز الأشياء: صفات أولية، وأخرى ثانوية. فأما الأولى فلا يمكن فصلها عن الجسم الذي يتصف بها بأية حال من الأحوال، ومن أمثلتها: الصلابة، والامتداد، والشكل، والحركة، والعدد. وأما الصفات الثانوية فلا توجد في حقيقة الأشياء نفسها، ولكنها قوى فيها تؤثر في حواسنا، فتنتج فيها بعض الإحساسات المختلفة ، فتكون وسيلة نعرف بها صفات الأشياء الأولية الأساسية، أي حجمها وشكلها وتركيبها وحركة أجزائها غير المحسة. ومن ذلك ترى أن أفكارنا عن الصفات الأولية للأجسام هي أشباه ونماذج للصفات الموجودة وجودا حقيقيا في الأجسام نفسها. أما الأفكار الناشئة فينا من الصفات الثانوية فليس بينها وبين الحقيقة الخارجية شبه على الإطلاق، أي إنه ليس في الأشياء نفسها ما يشبه أفكارنا، بل إن هذه الأفكار يقابلها فقط قوى في الأشياء تحدث فينا تلك الأحاسيس، ومن أمثلة هذه الصفات الثانوية: الألوان، والأصوات، والطعوم، فليس الاحمرار أو الحلاوة التي تنشأ عندك عن شيء ما صفة موجودة في الشيء نفسه، إنما هي نتيجة لعلاقة اتصال الشيء بحواسك، فكما أن الشمس تبعث الحرارة في الشمع فتذيبه، مع أن السيولة التي استحدثت في الشمع ليست موجودة في الشمس، كذلك حينما يعرض أمامك الشيء، فيحدث فيك لونا خاصا، فليس بين اللون الذي تكون وبين الشيء نفسه أي شبه، وكل ما في الأمر علاقة قوة في الشيء بحاسة من حواسك.

ولكن إذا كانت الأفكار الثانوية مجرد أفكار في عقولنا، ولا تمثل شيئا في الأجسام نفسها، إذن فنحن في واد والحياة الواقعة في واد آخر، ولا سبيل إلى إيجاد الصلة بين الطرفين، فكيف نوفق بين الإنسان وأفكاره من ناحية، وبين العالم الحقيقي الخارجي من ناحية أخرى؟ يقول «لوك»: «إنه بديهي أن العقل لا يعرف الأشياء مباشرة، ولكنه يعرفها بواسطة أفكاره عنها، وأن معرفتنا يكون نصيبها من الحقيقة بمقدار ما بين أفكارنا وبين الأشياء الحقيقية من تطابق.» فما مقياسنا إذن لما هو صحيح، ولما هو زائف من أفكارنا؟ كيف يستطيع العقل أن يقطع في ذلك برأي إذا كان لا يدرك شيئا غير أفكاره هو، فليس من سبيل لديه لمعرفة إن كانت هذه الفكرة المعينة تطابق الشيء الخارجي أو لا تطابقه؟ وبعبارة أوجز: ما هي العلاقة بين الشخص والشيء؟ هذه هي المشكلة التي صادفت «لوك»، بل التي اصطدم بها كل فيلسوف في كل عصر تقريبا. وقد اختلفوا في حلها فريقين: فريق يذهب إلى «المثالية» القائلة بأن أفكارنا عن الأشياء هي كل الحقيقة، ليست الأشياء المادية شيئا على الإطلاق. وفريق آخر يذهب إلى «الواقعية» التي تزعم أن الأجسام المادية الخارجة عنا حقائق مقررة، وأن ما في عقولنا من أفكار ناشئ عنها ومستمد منها. وقد كان «لوك» بل كانت المدرسة الإنجليزية كلها تأخذ بهذا المذهب الواقعي، فيقول «لوك»: إن الأفكار البسيطة التي تحدث في عقولنا من اتصالنا بالأشياء ليس وهما صوره الخيال، ولكنها نتيجة طبيعية مطردة للأشياء الخارجة عنا، وإذن فهي تطابق أصولها الخارجية كل التطابق؛ لأنها تقدم لنا الأشياء بالصورة التي في مقدورها أن نكونها في أذهاننا.

لكن انظر كيف يختم «لوك» رسالته بنقض قضيته التي من أجلها كتب ما كتب. إنه بعد أن اعترف باستحالة أن يعرف العقل غير أفكاره التي يستمدها من الخارج، أراد أن يعلل علمنا بالله فلم يجد بدا من القول بأن العقل يحتوي صورا أو نماذج لحقائق الله والنفس، بل والعالم الخارجي كذلك. وزعم أن هذه الصور الموجودة لدينا هي المقياس، الذي نقيس به صحة الفكرة أو خطأها، فإن كانت فكرتنا عن الشيء الخارجي مشابهة للصورة الموجودة في الأذهان من قبل، كانت صحيحة، وإلا فهي زائفة باطلة. وهكذا يبدأ «لوك» بهجوم عنيف على الآراء الفطرية حتى يكتسحها، ثم ينتهي إلى أن في العقل نماذج أو أفكارا فطرية، فقرر في آخر رسالته ما نقضه في أولها.

صفحة غير معروفة