الذي أصدر في ذلك كتابه
، وهو وإن لم ينشر مطبوعا إلا بعد موت كاتبه إلا أنه ذاع في الناس مخطوطا ذيوعا عظيما، وفيه يشرح رأي المحافظين في أن الدولة هي امتداد الأسرة، وأن الملكية نظام مقدس إلهي، فلا يجوز خلع الملك ولا مهاجمته. فأجابه «لوك» بأن الدولة عقد تم بين الأفراد لحماية متاعهم وأملاكهم، فالمرجع النهائي فيمن يولى العرش هو الشعب وحده، ووسيلة التعبير في رأيه هي الأغلبية. ويستطرد «لوك» في رسالته هذه، فيقسم الحكومة إلى قوات مختلفة متميزة هي: (1) السلطة التشريعية و(2) السلطة التنفيذية (وتتضمن القوانين الإدارية والقضائية) و(3) السلطة التعاهدية
Federative ، وهاتان السلطتان الأخيرتان خاضعتان للحكومة وعلى رأسها الملك، ولكن إذا كان من حق الملك أن يتدخل في السلطة القضائية فما ذلك إلا في حدود مقيدة، بحيث تكون الكلمة العليا دائما لممثلي الشعب الذين يكتسبون هذا الحق إما بالانتخاب أو الوراثة. ويصر «لوك» في كتابه على أن تكون القوة التشريعية هي السلطة العليا في الدولة، وأنها يجب أن تكون الحكم الفصل في كل ما ينشأ من مواضع الخلاف والنزاع. ولا يعترف «لوك» بالملكية المطلقة نظاما للحكم، ويشترط لهذا النظام أن يكون الملك مقيدا بإرادة الشعب.
وبهذا أراد «لوك» أن يدعم أركان الحكومة الجديدة؛ لأنها قائمة على إرادة الشعب، والشعب صاحب الحق في تولية من يشاء على أموره. وأنت ترى من ذلك أنه يوافق «هوبز» فيما ذهب إليه، كما أنه يسبق «روسو» في إعلان الرأي القائل بأن أساس الدولة تعاقد اجتماعي بين الأفراد.
أما كتابه «في التسامح» فقد دافع فيه عن حق الأفراد في الحرية الشخصية، وهو يحتم أن يكون لكل إنسان الحق الكامل في إبداء آرائه حرا من كل قيد، فليس من الحكمة أن ترغم الناس على عقيدة معينة أو رأي خاص. ويقول في رسالة أخرى خاصة بالكنيسة المسيحية: إن حرية العقيدة الدينية واجب في عنق الدولة، وليس لهذه الأخيرة أن تتدخل بين الفرد وعبادته؛ إذ واجبها محصور في صيانة المصالح المادية وحدها، ولكن على شرط ألا يعرض تصرف الفرد سلامة الدولة للخطر. وهو يحرم على الحكومة تحريما قاطعا أن تتحيز لمذهب من العقائد الدينية دون آخر، قائلا إنه كلما كان المذهب الديني أقرب إلى الحق كان أبعد عن حاجته إلى مساعدة الدولة له.
وهو يعرض لنا جملة آراء قيمة في كتابه عن التربية، الذي قصد به في الأساس أن يصون حرية الفرد في التفكير، فهو لكي يحقق للطفل هذه الحرية التي ينشدها له، يطالبنا ألا يكون التعليم عاما تحت إشراف حكومة أو كنيسة؛ لأن هذه أو تلك ستحاول أن تبث في النشء ما يتفق وأهواءها من الآراء والعقائد، ويشترط «لوك» أن يكون التعليم خاصا في المنازل، فيكون لكل طفل من يربيه، ويرى أن التربية يجب أن تقصد إلى الكفاية العملية وحدها، وإذن فينبغي أن نضيق من تعليم اللغات بقدر ما نوسع من تعليم الحقائق، هذا ويجب أن تسبق اللغات الحديثة اللغات القديمة في الدراسة، ولا بد أن يدرس كلاهما بالتدريب العملي لا من الجانب العلمي، وتحقيقا لذلك الغرض يجب ألا تدرس قواعد اللغة إلا بعد أن يتمكن الطالب من التكلم بهذه اللغة، وله عدا ذلك آراء أخرى في وجوب ملاءمة طريقة التدريس لشخصية الطفل، وضرورة الألعاب الرياضية في التربية، وفي محاولة تحويل العمل إلى لعب، وغير هذه من الأفكار القويمة التي أخذها من بعده روسو، فألبسها ثوبا جديدا أو أخرجها للعالم حية بما نفخ فيها من روح.
ولنتناول الآن كتابه «في العقل البشري» وهو خير ما كتب، فقد استهل هذا الكتاب باختبار العقل البشري نفسه أولا؛ لكي يتثبت من صلاحيته ومقدرته على اكتساب المعرفة الصحيحة، وإلا كانت أبحاثنا كلها قائمة على أساس متهدم متصدع، ولعل ما أوحى إليه بفكرة هذا الكتاب تلك البحوث والمناقشات التي كان يقوم بها مع صفوة أصدقائه الذين كانوا يتخذون من داره ندوة يجتمعون فيها؛ لكي يتعاونوا على بحث ما يعرض لهم من المشكلات العلمية، ولم يلبث هو وأصدقاؤه بعد عدة اجتماعات أن قرروا أن طريق البحث وعرة شائكة، وأنهم عاجزون عن المضي فيها عجزا تاما. يقول لوك: «لقد ربكنا أنفسنا حينا من الدهر دون أن نخطو خطوة واحدة نحو حل ما حيرنا من شكوك، ثم عنت لي بعد ذلك فكرة هي أننا نسير على غير هدى، وأنه كان ينبغي قبل البدء في مثل هذه الأبحاث أن نختبر قوتنا؛ لنرى لأي الموضوعات تصلح عقولنا لمعالجتها، ولأيها لا تصلح.»
وما أشبه قول «لوك» في هذا «بديكارت» من قبله، و«كانت» من بعده، فهو كما سبقه الأول، وكما سيتلوه الثاني يرى أنه لا يجوز لنا بحال من الأحوال أن نقوم بأي بحث أو دراسة قبل أن نستيقن أولا: هل يقع هذا البحث أو هذه الدراسة في حدود قدرتنا العقلية أم لا؟ ولقد أخذ على نفسه ألا يتعدى في علمه حدود الحواس والعقل، حتى لا يقبل من المعلومات إلا ما تقوم كل الدلائل على تبريرها.
ويسارع «لوك» فينبه القارئ أنه لا يقصد بدراسة العقل المبدئية أن ندرس طبيعة العقل نفسها، كلا فليس له بهذا المطلب شأن، بل إنه ليقول إن من يحاول أن يدرس طبيعة عقله لشبيه بمن يحاول أن يرى عينيه، (لأنه يحاول أن يرى عقله بعقله) ولكن «لوك» يكتفي في ذلك بملاحظة ما يحدث في العقل وقت تحصيل المعرفة، وهو يقتفي أثر «ديكارت» في تسميته كل ما يحدث في القوة الواعية «بفكرة»، ويعلن أن كل مهمته هي استكشاف الطريقة التي يصل بها العقل البشري إلى أفكاره، وإذن فهو في بحثه هذا أقرب إلى تعرف وسائل المعرفة الصحيحة منه إلى كشف الحقيقة نفسها. ومن ثم كان «لوك» جديرا بأن يعتبر مؤسس علم النفس الحديث؛ لأن معظم بحثه منصب على مبعث الأفكار وأساسها.
ولقد سلم «لوك» بعجز العقل البشري وقصوره عن معالجة ما يتجاوز حدوده، ويقول في ذلك: «لا ينبغي أن نعدو حدود ما تستطيعه ملكاتنا.» وهو يلاحظ أن الناس يميلون بوجه عام إلى التعمق بأفكارهم فيما هو فوق مقدورهم، ولذا تراهم يسيرون على غير هدى ويقين. والنتيجة الطبيعية لهذا التخبط هي اللاأدرية والشك. «فلو أننا بحثنا ملكاتنا العقلية بحثا جيدا، وكشفنا عن مدى علمنا لنرى الأفق الذي يفصل بين الأجزاء المضيئة والأجزاء المظلمة من الأشياء، أعني بين ما نستطيع فهمه وما لا نستطيع، لاطمأن الناس إلى جهلهم في الجانب المظلم ورضوا به، ولاستخدموا أفكارهم وأبحاثهم في الجانب الآخر استخداما أنفع وأبعث على الاطمئنان.»
صفحة غير معروفة