قصة الفلسفة الحديثة

زكي نجيب محمود ت. 1414 هجري
47

قصة الفلسفة الحديثة

تصانيف

ومما يؤسف له أن كانت في أخلاق هذا الفيلسوف دناءة وضعة، فكان شرها مقترا مرائيا مخادعا، لا يبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة نفسها، ولا يدافع عن رأي أو ينقد رأيا إلا لمآرب شخصية. ومن أمثلة ما يروى عنه في ذلك أنه كان أصدق الأصدقاء لسبينوزا في حياته، فلما مات انقلب له عدوا لدودا يهدم آراءه ويهجوه، وقد بلغ به الحقد أن أثار حملة دينية على نظرية «نيوتن» في الجاذبية، لا لشيء إلا لأنه أراد أن يهدم من عظمة الرجل. (1) فلسفته (1)

نظرية الذرات الروحية

Monadology :

يجمل بنا قبل تناول هذه النظرية بالشرح أن نعود بأبصارنا إلى الوراء قليلا، فنلقي نظرة على تتابع الفكر وتسلسل الرأي عند فلاسفة ذلك العصر، فلقد مر بنا كيف قسم ديكارت الوجود إلى عنصرين أو جوهرين هما: الفكر والامتداد، أي أن كل موجود في الوجود لا يعدو أن يكون شعورا أو مادة، أو بمعنى أوسع، روحا أو جسما، ولكن وراء هذين الشطرين المتباينين المختلفين إلها لانهائيا كاملا لا يسع الفكر إلا أن يسلم بوجوده، وكل من هذين العنصرين اللذين يتألف منهما الكون متجانس في جوهره مهما اختلفت أعراضه وصفاته الظاهرة، فالأجسام المادية كلها، كائنا ما كان لونها، عنصر واحد، صفته الأساسية هي المكانية والامتداد، والعقول كلها المنبثة هنا وهناك إن هي إلا عنصر واحد كذلك، صفته الأساسية الشعور، فإن رأيت خلافا بين الأجسام المادية، فما ذاك إلا خلاف في الأعراض دون الجوهر، كالشكل والحجم والوضع والحركة، وإن لحظت تباينا بين العقول فما هو إلا تباين في الأعراض أيضا دون الجوهر والأساس، كالأحكام والأفكار والإرادة. فالأجسام الفردية أعراض لجوهر واحد هو المكانية، والعقول الفردية أعراض لجوهر واحد هو الشعور.

ولكن كيف اتحد هذان العنصران المختلفان في الإنسان؟ وكيف أمكن أن يؤثر أحدهما في الآخر؟ إن ديكارت لا يشك في أن للجسم تأثيرا على العقل؛ لأننا لو قلنا إن العقل قد استمد أفكاره الواضحة المحدودة من الله، فلن نستطيع أن نزعم أن ما فيه من أفكار مهوشة غامضة قد جاءته من الله كذلك، وإذن فلا بد أن تكون قد نشأت من علاقة العقل بالجسد. فبماذا إذن تعلل تأثير الجسم المادي في العقل الشعوري على ما بينهما من اختلاف في الجوهر؟ يجيب ديكارت بأن هذه علاقة شاذة لا تتفق مع طبائع الأشياء، ولا يتردد في أن يعترف بأن إرادة الله قد تدخلت في الأمر فوحدت بين ذينك العنصرين المتناقضين، بحيث يؤثر أحدهما في الآخر. ويزعم ديكارت أن هذا الشذوذ لا يوجد إلا في الإنسان وحده دون سائر المخلوقات، وأما سائر أنواع الحيوان فهي في نظره أجسام مادية وأحاسيسها لا تزيد على حركات عصبية تنشأ عنها دوافع تحركها حركات منعكسة لا أثر للفكر فيها.

جاء «سبينوزا» فأنكر هذا الشذوذ في التفكير، فلو كان في الكون كما يزعم جوهران منفصلان هما المادة والعقل لاستحال أن يؤثر أحدهما في الآخر؛ لاختلاف عنصريهما. ورأى «سبينوزا» أن أساس الخطأ كله هو في فهم حقيقة الله، فلا مادة هناك ولا فكر، ولا إله يصل ما بينهما في الإنسان ويدعهما منفصلين في سائر ظواهر الكون، إنما في الكون حقيقة واحدة، جوهر واحد، عنصر واحد، هو العقل وهو المادة وهو الله معا. لا يرى «سبينوزا» أن الله يخلق العالم، بل عنده أن الله هو العالم.

ثم جاء «ليبنتز» فوقف من «سبينوزا» موقف النقيض، فلم يذهب معه فيما ذهب إليه من وحدة الكون، بل نادى بمذهب «التعدد»

، الذي يرى في الكون حقائق فردية لا نهاية لها، وليس كل ما فيه حقيقة واحدة كما يدعي مذهب «الواحدية»

Monism

الذي أخذ به «سبينوزا»، ولكن «ليبنتز» حين نادى بمذهب تعدد الحقيقة التي يتألف منها الكون لم يرد أن يعود إلى فلسفة الذريين التي تقول إن العالم مكون من ذرات مادية لا أكثر ولا أقل، وأن تلك الذرات تسير سيرا آليا لا يقصد إلى غرض ولا يتجه إلى غاية، إنما حاول أن يجعل من العالم كائنا حيا عاقلا شاعرا يعلم أين يسير، فأخرج نظريته في الذرات الروحية التي سنتناولها الآن بالشرح.

صفحة غير معروفة